إ النهوض العربي والحداثة الأوروبية (2 ) بقلم / الدكتور السيد ولد اباه أستاذ الفلسفة بجامعة نواكشوط ~ يراع ـ البيضاوي

الجمعة، 11 مايو 2018

النهوض العربي والحداثة الأوروبية (2 ) بقلم / الدكتور السيد ولد اباه أستاذ الفلسفة بجامعة نواكشوط

د. ولد اباه
تساءلنا في المقال الماضي: لماذا أخفق المشروع النهضوي العربي في محطتيه الوسيطة (العجز عن الانتقال إلى الحداثة) والراهنة (العجز عن التحديث)؟ وفي العادة يتم الفصل بين المحطتين لاختلاف سياقاتهما التاريخية، رغم أن بينهما وشائج نظرية ومعيارية عميقة تحتاج للتوضيح. بخصوص المستوى الأول من الإشكال، يتعين التنبيه إلى أن الوعي الحداثي أي تأسيس مرجعية اللحظة التاريخية على منطلقات التحول نفسه المكتفي بذاته، لا يعني ضرورة جذرية القطيعة والتغير، أي بمعنى آخر ليست الحداثة منعطفاً تاريخياً نوعياً بقدر ما هي تأسيس على هذا التحول واعتماده مرجعيةً معيارية. ومن هنا قول «هابرماس» إن مفهوم الحداثة من نتاج فلسفات نهاية القرن الثامن عشر وقد بلوره لأول مرة «هيغل» بصياغته مشكلا فلسفياً من حيث المعضلة التي يطرحها هذا التأسيس المرجعي الذاتي.
ومن هنا فإن الوعي الحداثي طرح دوماً إشكالين متلازمين: أولهما تاريخي يتعلق بمدى صواب ووجاهة الاقتطاع المفصلي داخل حركة التحول الزمني بالفصل بين لحظتين متمايزتين جوهرياً في مسار الإنسانية، وثانيهما تأويلي يتعلق بشرعية تحميل مجرد التحول دلالات معيارية قوية.

الفرق إذن كبير بين الحداثة ومفهوم النهضة الذي يحيل ضمنياً إلى سردية ممتدة ومن هنا التأسيس على الموروث اليوناني الروماني القديم وبين الحداثة والتنوير الذي هو موقف نظري تترجمه دلالة الاستخدام العمومي للعقل، وليست الصياغة التأليفية بين المفاهيم الثلاثة إلا من نتاج فلسفات التاريخ المعاصرة.

ما نريد هنا أن نبينه هو أن طرح المشكل النهضوي العربي يقتضي تفكيك هذه المعادلة التأليفية بتنزيله في سياق السردية المفهومية المتصلة واستحقاقات التنوير العقلي الراهنة بدلا من حصره في سؤال الحداثة الذي يقود حتماً إلى إشكالية العلاقة بالغرب الذي هو الاسم الآخر للحداثة، كما تقول «حنة آرندت».

من هذا المنظور نلاحظ أن التفسيرات التي تقدم عادة في الدراسات الغربية حول «عجز» المجتمعات المسلمة عن النهوض، تتركز على المقارنة بالتجربة الأوروبية، وبالرجوع دوما إلى المقومات المحورية للحداثة الأوروبية: العقلانية الذاتية الأداتية، والدولة القومية العلمانية، والرأسمالية الاقتصادية، وهي المقومات التي جمعها «ماكس فيبر» في مفهوم العقلنة ببعديها النظري والاجتماعي وربطها بالدِّين المسيحي وحركيته الإصلاحية.

ليس من همنا الوقوف عند الأزمة المفهومية والعملية التي تعاني منها هذه المرتكزات الثلاثة، منذ بدأ في نهاية القرن التاسع عشر النقد الفلسفي لنموذج العقلانية الأداتية وسياجها الذاتي، ومنذ أن دخل راهنا نموذج الدولة القومية السيادية في مأزق متفاقم ومعه تصورها التقليدي للعلمنة. إن هذه الأزمة التي تعالج في الفكر الغربي، سواء من منظور مقولة «ما بعد الحداثة» التي ليس لها مضمون إيجابي فعلي أو من منظور مقولة «العولمة» التي فقدت مبكراً زخمها النظري، تحملنا على إخراج موضوع النهضة من متاهات مفهوم الحداثة للوقوف على أسباب تعثر ونكوص حركيّة النهوض العربي.

وفق هذا المنحى يظهر أن ما يعتبر مكاسب الحداثة من نزوع عقلاني وحرية ذاتية وقيم إنسانية كونية لا يمكن فصلها عن سردية ممتدة كان للمجتمعات المسلمة الوسيطة دور أساسي في بلورتها وصياغتها وإن لم تبدع هذه المجتمعات البنيات المؤسسية التي جسدت هذه القيم في المجال الأوروبي الحديث. السؤال المطروح هنا هو: ما دام لا يمكن اعتماد الأطروحة الثقافية القوية التي تفسر النهوض الأوروبي بخصوصيات فكرية وعقدية جوهرية فما الذي يفسر مسار التحول الذي عرفته أوروبا وحدها ضمن العالم المتوسطي والمجال الإبراهيمي التوحيدي؟

ليس من همنا التذكير بالأطروحات الاجتماعية والتاريخية التي قدمت لتفسير الظاهرة، وقد بين عالم الإنتربولوجيا البريطاني «جاك غودي» في أعماله الرائدة ضحالتها، موضحاً أن كل عناصر النهوض الأوروبي كانت موجودة في المجتمعات الشرقية الإسلامية والصينية (التراكم الرأسمالي والنزعة الفردية والنزعة الإنسانية والعقل التجريبي والجامعات المتخصصة..)، معتبراً أن الشرخ بين أوروبا والعالم لم يبدأ إلا في القرن الثامن عشر لأسباب جغرافية ظرفية تتمثل في توفر الثروة المعدنية الضرورية للطاقة وصناعة الآليات التقنية التي تقتضيها الثورة الصناعية في أوروبا وليس غيرها، أما العناصر الثقافية والمجتمعية فلم تكن خاصة بأوروبا وإنما نشأت في تفاعل حي بين الشرق والغرب. وبطبيعة الحال كان للثورة الصناعية تأثير نوعي على تركيبة المجتمع ونظمه الثقافية والمؤسسية ولم تكن هذه التحولات أصلا من مسببات ودوافع الثورة التقنية الصناعية.

ما نريد أن نخلص إليه هو أن توقف المشروع النهضوي العربي في نهاية العصور الوسيطة التي نطلق عليها خطأ عصور الانحطاط، ليس ناتجاً عن أسباب ثقافية جوهرية، بل يعود إلى تراجع الضفة الغربية للعالم الإسلامي نتيجة لحروب الاسترداد التي قطعت خطوط الوصل بين جناحي عالم حضاري واحد متنوع الديانات والثقافات في الوقت الذي قوضت الغزوات الآسيوية للشرق العربي ما سماه مروان راشد «التنوير العباسي»، ويعني به اقتران الفلسفة النقدية بالتصورات الرياضية للطبيعة ونشأة المدارس الموسوعية.. وهي القنوات نفسها التي قامت عليها النهضة الأوروبية الحديثة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : يحيى البيضاوي