إ " الشاي في الثقافة الشنقيطية الموريتانية ... أدبياته وتقاليده " / بقلم : الدكتور محمد المصطفى مايابا* ~ يراع ـ البيضاوي

الجمعة، 1 يناير 2016

" الشاي في الثقافة الشنقيطية الموريتانية ... أدبياته وتقاليده " / بقلم : الدكتور محمد المصطفى مايابا*

د . محمد المصطفى مايابا

بسم الله الرحمن الرحيم                 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

 يعتبر الشاي أو الأتاي من أصول الضيافة في ثقافة " شعب البيظان " على طول الرقعة الجغرافية التي شكلت - تاريخيا – مناطق لانتشارهم وتوطنهم: من منتهى صحراء النيجر شرقاً؛ إلى شواطئ المحيط الأطلسي غرباً؛ 


ومن ضفاف نهر السنغال جنوباً؛ إلى نهاية مجابات الصحراء الكبرى شمالاً في جنوب لجزائر والمغرب . وقبل الخوض فيما نحن بصدد الحديث عنه؛ نلفت الانتباه إلى أن هذه المقاربة سوف تقتصر على الجانب الفصيح من أدب الشاي في الثقافة الشنقيطية الموريتانية؛ رغم كون جانب الأدب الملحون (الحساني) منه لا يقل ثراءً بل يفوق الفصيح منه أو يكاد؛ كما أننا سوف نراوح بين التعبير بلفظ الشاي والأتاي تبعاً لمزاوجة النصوص الأدبية التي سنوردها بين ذلك .يكاد صنع الشاي وتقديمه - كأول نُزل للضيف - يكون تقليداً متفقاً عليه بين كافة متعاطيه من المجتمعات "البيظانية "على اختلاف عاداتها وتنوع تقاليدها؛ من جهة لأخرى ومن مجتمع لآخر؛ فالقاسم المشترك بينها جميعاً هو المبادرة بتقديم الشاي كأول خطوة في إكرام الضيف وحسن ضيافته يقول التجاني بن بابا العلوي(ت: 1260هـ):

       الضيف دون (الأتاي) اليوم مكرمه   ***    لم يُجد شيئاً وإن جلّت موائده

      ومن سقى ضيفه (الأتاي) أكرمه      ***   ولا يُلام وإن قلَّت فوائـــــــــده

      جرت بذا عادة الأقوام واطَّردت      ***   والدهر لا بد أن ترعى عوائده

تاريخ ظهور الشاي ( الأتاي ):
قد لا يتسنى للباحث أن يحدّد – بدقة – تاريخ ظهور الشاي ودخوله إلى " أرض البيظان " وإن كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي مظنة قوية لذلك؛ ولعل الأمر غير ذي أهمية قصوى في سياق ما نحن بصدده؛ بل الأهم  - في نظرنا -  هو ما أحدثه الشاي – بعد ظهوره - من أثر في حياة " البيظان " وطريقة عيشهم وثقافتهم؛ فهو - كأي أمر طارئ وحدث وافد غريب على المجتمع - أثار – أول ما ظهر – خلافاً علمياً بين علماء البلد وفقهائه حول جواز شربه وتعاطيه من مُجيز له بحجة حلّية عناصره ( ماء؛ ورق شجر؛ سكر ) ومُحرّم له بدعوى ما فيه من تضييع للوقت والمال فضلاً عن شبه مجلسه وأدواته ( إبريق - كؤوس ) بمجالس الخمر وأدواتها؛ رُبما إعمالاً لرأي المحدث الأصولي إسماعيل بن علية ( ن: 193 هـ ) في مراعاة قياس الشبه واعتباره؛ وهو الرأي المشار إليه بقول علامة شنقيط سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي (ت: 1233 هـ ) في " مراقي السعود " :

     و( ابن علية ) يرى للصوري    ***    كالقيس للخيل على  الحمير

ويقول الشيخ محمد العاقب بن مايابى  ( ت: 1327 هـ) مبيناً وجه ذلك الشبه الصوري بين الشاي والخمر:

    أتاني (أتايُ) لابسُ ثوب شبهة  ***    تنازعه فيها الإباحة والحظــــــــرُ

   فطوراً له شبه العُسول وتارةً   ***    يًريك بكبريائه أنه الخمــــــــــــــرُ

 هو الخمر إلا أن فيه منافعاً    ***    وليس به إثم كبير ولا سكـــــــــــــــُر

وليس الشبه الصوري بين الشاي والخمر هو المأخذ  الوحيد  عند مانعي شرب الشاي والمتحفظين على تعاطيه؛ فلهم مآخذ أخرى فصَّلها محمد بن ابنو بن حميدة الشقروي (ت: 1363 هـ)  في قوله:

      تركت (الشاي) خشية أن أكونا    ***    من اللائي عليه  " يسكّكونا "

     وخشية أن أكون أخا ديون        ***        ولم أر ما به أقضي الديونا

    وخشية أن أكون كمثل شيب    ***           إذا قيم (الأتاي) " يسخرونا "

    وخيفة أن أكون نديم آم        ***           أجالسهن أبكاراً وعونـــــــــا

    وخشية أن أجاس كل نذل      ***         يجرُّ إليَّ منقصة وهونـــــــــا

ولا شك أن رأي المجيزين هو الذي كانت له الغلبة في النهاية - ربما بدافع الفتنة بالجديد وسلطان " آتري " - حيث انتشر شربً الشاي وتعاطيه بين سكان حواضر القطر الشنقيطي  وبواديه عامة  وفي مختلف أقطار العالم الإسلامي  المجاورة والبعيدة من غير نكير؛ فضلاً عن " بدهية " حلّية أصوله وعناصره؛ وإن بقي البعض من زهاد البلاد وعلمائها يتورع عن شربه وتعاطيه  وفي ذلك يقول محمد الكرّامي بن مايابى ( ت 1339 هـ):

      مثال هذا (الأتى) شراب اتخذت   ***    له الأفاضل مثل النفع في الآس

      مركب من ثلاث حلًّــها قمـــر      ***    من هاهُنا وإلى ورا (سجلماس)

     (فالحوض) ذاع به في كل بادية    ***       أربابها سمحاء دون حراس

     وفي (ولاتة والنعمى) تناوله       ***  بين الكرام على كثر وإفلاس

    واستعملته كذا (شنجيط) واتخذت   ***  له ( تشيت ) جهاراً دون تجساس

   واهتز يمشي بدور (الغرب) منعرجًا   *** ( لفاسه) وإلى ديار (مكناس) (1)

  بل في الحجاز ) فشا (ومصر) مع (يمن)  ***    (هند وشام ) وفي بلاد (أوطاس)

طقوص الشاي وتقاليده وأدبياته:

لقد ولع أدباء الثقافة الشنقيطية  وظرفاؤها بوضع بعض الطقوص والتقاليد التي رأوها كفيلة بجعل مجلس الشاي ( الأتاي ) مجلس علم وإفادة وجلسته جلسة أنس وراحة واستجمام؛ وهذا كان – طبعا – في بداية ظهور الشاي ونُدرته واقتصار تعاطيه على علية القوم وكبرائهم وأصحاب الوجاهة والتميز فيهم؛ قبل أن ينتشر ويصبح أمراً "روتينياً" في حياة الناس اليومية خلال العقود المتأخرة.
ولقد تعارف القوم على أدبيات مرعية لجلسة الأتاي بحيث لو فقد البعض منها كان ذلك نقصاً في متعة الأنس به والإفادة المرتجاة من مجالسه؛ وأول تلك التقاليد والأدبيات هو حسن وأناقة أدوات الأتاي ونظافتها وروعة مظهرها؛ من قبيل بريق الأبريق ( البراد ) وإزهار الكاسات الزجاجية ولمعان صينيتها (الطابلة)؛ فضلاً عن جودة الشاي نفسه ( الورقة ) والحرص على تخيًّرها وتخيُّر السكر المخصص لتحليتها؛ وفي ذلك يقول الشيخ سيديا (بابا) بن الشيخ سيديا (ت: 1342هـ ) :

       يقيم لنا مولاي والليل مقـــــــــــمر  ***   وأضواء مصـــباح الزجاجة تزهر

      وقد نسمت ريح الشمال على الربى  ***   نسيماً بأذيـــــال الدجى يتــــــــعثّر

     (كؤوساً) من (الشاي) الشهي شهية   ***   يطيب لــــها ليل التمام ويقـــــصر

    تخير من تجار (طنجة) (شاهُــــــها)  ***   وخير لها من ( تلج وهران ) سكر

   ( قواريرها والشاي) فيها يزينـــــــها   ***  وقد زينتــ ــــه جوهر فيه جـــوهر

   ( ولا غرو إن طابت صنائع ماجــــد   ***   كريم فماء العود من حيث يعصر)

وفي هذا السياق أيضا يقول محمد الكرَّامي بن مايابى  المتقدم ذكره واصفاً طقوص الشاي وهيئته وأثره في نفوس نداماه:

      إذا ماهر السقاة نادى فأسمعا       ***  هلموا  إلى (الأتى) فهرول مسرعا

      وأوقد ناراً ثم ماءً بمرجل           ***   وأمهله حتى إذا ما تهوَّعــــا

      تناول (إبريقاً ) تلألأ نورُه           ***   وألقمه (المفتول) أو سُكره معـــا

     وأورد ما صفواً على ذاك مُمزجاً   ***   وأفرغه من بين (كاسات أربعا)

    وناولنا (كأساً) صفا لون مائها        ***   (ولوَّز) ما قد شاء منها (ونعنعـــا)

     فقد ذهب الهم المشوش والعيا       ***   وحل نشاط في السلامي أجمعا

     ونفهم ما خط المزابر إذ خفا         ***   وما ساقه البيان درا مرصعا

    ونرتاح إن غنَّــــى أوَ انشد منشد    ***   " صحا مذ نحى عنه الخواطر منزعا"

  وأنشدنا " أم المراثي " تساجلاً        ***   لأنا نحب الشعر وتراً مشفَّعــــــا

  ( ألمّــا على " معن " وقولا لقبره      ***   سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعـــــــا) 

وقد كانوا يحرصون على التفنن في استجادة " الورقة " ( الشاي) والتخيُّر من أنواعها التي أشار المحتار بن حامد ( ت: 1414 هـ) في المقامة المتعلقة بالشاي من مقاماته " المقامة الشاهينية " إلى أنها سبعة أنواع فقال على لسان الورقة (... وأشكالي أربعة وضروبي سبعة...) منها المستجاد كالمفتول والشهباء – وهما أجودها – ومنها المسترذل كالحمراء والنميلة والعود وهي أردؤها يقول محمد بن أحمد يوره الديماني ( ت: 1342 هـ)   في ذمّ " ورقة العود " :

 لا تشتر (العود) شاري العود مغبون ***   والصب – ويحك – ( بالمفتول) مفتون

 قد بان بون لدى التجريب بينهما      ***    وفي التجاريب يبدو الفرق والبــــون

ويقول – أيضاً – في التحذير من " الحمراء " :

      وإياك و(الحمراء) لا تشربنها  ***   إذا وُجد ( المفتول ) في بيت تاجر

ويقول محمد بن البرا الديماني ( ت: 1362 هـ) في تفضيل المفتول على النميلة :

     إذا لم نجد إلا (النميلة) مشرباً  ***  شربنا ولم نسمع مقالة ذي عذل

    وإن ورد (المفتول) قلنا (لنملة) ***  مقالتها للنمل في " سورة النمــل"

ويقول محمد بن ابنو الشقروي المتقدم ذكره في تفضيل الشهباء على المفتول رغم ما عُرف من جودتهما معاً :

على الغارب (المفتولُ ) يلقى له الحبل  ***   إذا جاءت (الشهباء ) لا غبَّها الوبـــل

وتنشد حال الشَّرب عند شرابــــــــها    ***   وقد حُق ( للشهباء) أن يضرب الطبل

(محا حبها حب الألى كن قبــــلــــــها    ***    وحلت مكاناً لم حُل من قبــــــــــــلُ)

وبعد هذه الجولة في أنواع الشاي نعود للتفصيل في بعض مصطلحاته في الثقافة الشنقيطية ومن أهمها :

مصطلح " الجيمات  الثلاثة " التي يجب مراعاتها عند صنع الشاي " وإقامته " ويقصد بها عندهم ما تحيل إليه تلك الكلمات التي  حوت ذلك الحرف ( الجيم ) وهي: الجماعة، والجر، والجمر

1 – الجماعة: والمقصود بالجماعة جلساء الشاي وندماؤه من كل من  تتوفر فيه صفات الفتوة من علم وأدب وحسن مظهر وطيب مخبر يقول محمد سالم بن بدياه المجلـــــــــــــسي ( ت: 1362 هـ ):

    من لي (بكأس) رحيق ذات أوراق    ***  قد ساقها الساق في دنّ على الساق

    لها فقاقع تبدو في جوانبـــــــــــها    ***  مثل اليواقيت قد جالت بأعـــــــناق

    يديرها ماجد حلو شمائــــــــــــــله   ***  حامي الحقيقة ذو بذل وإنفـــــــــاق

ويقول محمدُّو النانه بن المعلَّـــــى الحسني ( ت:  1402 هــ )  :

       سقانا (شاهه) نهلاً وعـــــــلاّ      ***    شهياً مثل شيمتــــــــه ( ابــن ألاّ )

     وقد ملأ (الكؤوس) لنا فكــــــل      ***    محلّى من فقاقعـــه محــــــــــلّــى

    ترى (الأبريق ) يزهر في يديه       ***    على (الكاسات ) يهوي كالقرلّـــى

    (وقنديلاً كأن الضوء فـــــــــيه       ***    محيا من تحب إذا تجلّـــــــــــــــى

    أشار إلى الدجى بلسان أفعــى       ***    فشمر ذيله هرباً وولّــــــــــــــى)

 وحيث خلا مجلس الشاي من منادمة أمثال هذه النخبة المثقفة – أو لنقل نخبة النخبة -  فليس هو المقصود عندهم بالحفاوة والتنويه والمديح يقول أبو مدين الديماني ( ت: 1364 هــ ):

       أهوى (الأتاي) إذا كان النديم به   ***   شكلي وحيث خلا مما ذكرت فلا

        ولم أجب دعوة الداعي له أبداً   ***    ما لم تكن دعوة الداعي له الجفلى

والحقيقة أن مجلس الشاي عند الشناقطة  الموريتانيين كان من خير المجالس وأحسنها؛ حيث يختارون له أصفى الأوقات وأهدأها وأكثرها عونا على إطالة المسامرة وإجادة حديثها؛ متفننين في انتقاء من يسامرهم ويطارحهم خمر الحديث ومتعة المؤانسة الضاربة في كل علم مفيد بسهم؛ وفي كل فن مستطرف بنصيب؛  يقول أبو مدين الديماني المتقدم ذكره:

   ألا فاسقني (كاسات شاي) ولا تذر       ***   بجانبها من لا يعين على السمر

     فوقت شراب (الشاي) وقت مسرة     ***   يزول به عن قلب شاربه الكدر

     تخير حسان السمت عند شرابه        ***    فللعين حظ لا يزول من النظر

    وخلل شراب (الشاي) بالذكر واستعن  ***   به في الليالي المظلمات على الســـهر

 ونادم خيار الصالحين فمـــــــجلس      ***   به صالح يقضي به غالب الـــــــوطر

 وغيّب سوى من قد ذكرتُ وإن غدا     ***   يرى الفضل فيمن عند مجلسه استقر

 ترى مجلس (الشايات) في العين واحداً ***  فيختلف المعنى وتختلف الصتـــــــور

 ولا بد من إنشادك الشعر عنـــــــده    ***  ليطرب منك القلب والسمع والبصر...

كيف لا والشاي محفز للنشاط عند القوم مثير للحماسة بينهم؛ بل هو الأنس الحقيقي إذا انضمت إليه عوامل أخرى حسب رأي محمد سالم بن الشين الشمشوي  ( ت: 1362 هــ ):

    لولا (الأتاي) ولولا البيض والعيس  ***     لما تكوَّن بين الإنس تــأنيس

   (أتاي ) يذهب ما في القلب من كدر  ***     وقد يطيب به شعر وتدريس

    والبيض ما هلكت على محبتها      ***     إلا غطارفة شمُّ قـــــواميس

   والعيس إن شمَّر الأقوام تحمدها    ***     مهما تعاقب تهجير وتغليس

ويقول محمد الكرامي بن مايابا المتقدم ذكره في سياق غير بعيد عن هذا:

    زمان البغاة والعلوج الجوارس        ***   ألذّ شهي للنفوس ممارس

     كتاب حوى شعر الحماسة والندى  ***   وذكر فتوح الشام وفتح فارس

    وخل فقيه النفس – والطبع رائق -  ***   خبير بما تحوي بطون القراطس

   (وكأس) إذا ما الساق أتقن صنعها   ***   وأسقى بها ينصاع هم الهواجس

وكثيراً ما تبرَّم جلساء الشاي وندماؤه - من مثل هذه الطبقة التي تمثل النخبة المثقفة في المجتمع - من المتطفلين على مجلس الشاي ممن يكدر عليهم صفو حديثهم وينغص عليهم متعة سمرهم ويشوش على مطارحاتهم العلمية ومساجلاتهم الأدبية ويسمونه " السكَّاك " جمعه " سكَّاكة " وفيهم يقول محمد بن ابنو الشقروي المتقدم ذكره  مبرراً سبب عزوفه عن الشاي حذرا من الانضمام إلى مثل أولئك :

       تركت (الشاي) خشية أن أكونا  ***    من اللائي عليه " يسكّكونا "

ويقول – أيضاً – في نفس سياق التبرم من المتطفلين على مجالس الأتى

   يا ويح (للشاي) ما تصفو مشاربه  ***    لشاربيه لأن العبد شـــــــاربه
   والكهل شاربه منا وشاربــــــــــه  ***   منا الذي هو ما إن طـرَّ شاربه

2_ الجر: يقصد بهذا المصطلح - في سياق صنع الشاي وتهيئته والسمر عليه – عدم الإسراع بإنهائه من طرف من يقيمه وطي صفحته المؤذن بانفضاض مجلسه وتفرق ندمائه؛ بل المطلوب ممن يتولاه التؤدة والتراخي في صنعه وتطويل المدة بين الشربة ( الكأس) وتاليتها؛ حتى يطول السمر بين المتسامرين ويطوحوا – في حديثهم وسمرهم – بمفازات غرائب  العلم والأدب وشواردهما؛ تتميماً للفائدة وإمعاناً في المتعة والمؤانسة؛ وغالباً ما يوجهون خطابهم في هذا الإطار لمن يتولى تحضير الشاي وإعداده – وهو المسمى عندهم " بالمقيم " أي الذي يقيم الشاي ويتولى سقي الجماعة ومناولتهم كؤوسهم يقول سيدي بن المختار أمًّ   الديماني:

  بادر إلى (الكأس) واشربها بأنفـــاس   *** وخذ من " العظم"بين (الكاس والكاس)
     والكيسين لها اختر دون غيرهمو   ***    فلن تطيب (كؤوس) دون أكــــياس

ويقول الحسن بن ابا الجكني ( ت: 1408 هــ )  في هذا السياق مخاطباً "المقيم" :

       " اجرر " (أتايك) لا تعجل رفعه   ***      إن النفوس تطيب ما لم يـــرفع

      وإذا دعاك لقصر (شاهك) موجب  ***    فاقصر وإلا يا " مقيم " فـــأربع

     فالشرع إتيان " المقيم" بأربـــــع   ***   والقصر دون مبيحه لم يشـــ ـرع

    إن المصغر لا يصغر ثانـــــــــياً    ***   فإذا وليت على (الكؤوس) فأترع

ولا بد من الإشارة إلى تفسير مصطلحي " أربع  وأترع " الذين وردا في الأبيات السابقة فالمقصود " بالإرباع " أن يكمل " المقيم " أربع دفعات ( كاسات) من الشاي بدل الثلاث الأكثر شيوعاً؛ وأما " الإتراع " فالمقصود به تعبئة الكأس وملؤها من الشاي عند مناولتها للشاربين إمعاناً في إكرامهم وسعيا في مرضاتهم يقول محمد سالم بن بدياه المجلسي المتقدم ذكره :

     إذا ما أقمت (الشاي) فاملأ لي (الكأسا) *** فإني بملئ (الكأس) لست أرى بأسا

       ومستنــدي " كأساً دهاقاً " فإنــــه   ***   أتي  في سياق المنّ فافهم ولا تنسـى

       ولا تسقني إلا مع الشكل إننـــــي    ***    أطيب بشكلي إذ أنـــادمه نـفســـا

ويقول محمد بن أحمد يوره الديماني  ( ت: 1342 هــ ):

    سقيتموني (كأساً) لا شبيه لهــــــــــا    ***   في طيب نسمتها ما إن لها مثل

   ما هي – لولا الذي تحويه من قصر-   ***   إلا " سعاد غداة البين إذ رحلوا "

ويقول – أيضاً – مخاطباً " مقيماً " اسمه المبارك  :

    بات " المبارك " يسقينا على طرب  ***  واللهو مجتمع والهم مفترق

وبالنسبة " للإرباع والإتراع " فالقوم سلكوا  في ذلك مذاهب شتى وطرائق فدداً؛ منهم من يفضل "الأرباع " على " الإتراع " وعليه مذهب القائل:

  " أربع " ولا " تترع " فإن الأربعة  ***  أشهى إلي من ثلاث مترعة

ومنهم من ينحو عكس ذلك؛ مفضلا " إتراع " الكؤوس الثلاثة تعويضاً عن " إرباعها "  وعليه قول الراجز:

  " أترع " ولا " تربع " فإن الأربعة  ***   قامت مقامها الثلاث المترعة

ولم أر من جمع بين المذهبين إلا على الأخذ بعموم وإطلاق قول المجلسي السابق:

 إذا ما أقمت (الشاي) فاملأ لي (الكأسا)  ***   فإني بملئ (الكأس) لست أرى بأسا

 ومستندي " كأساً دهاقـــاً " فإنــــــــه    ***  اتى في سياق المن فاهم ولا تنـــسى

3_ الجمر: أما المصطلح الثالث الذي حوى إحدى الجيمات الثلاثة المشهورة  في أدب الشاي فهو " الجمر" والمقصود به تسخين الشاي وطبخه على نار هادئة لا دخان فيها يؤذي المتحدثين ولا لهيب لها يحرق المصطلين؛ باعتبار ذلك أدعى لجودة الشاي وحسن نسمته وفوران رغوته وقوة هدرة شاربه ( نقصد بالعبارة الأخيرة هنا - مجازاً - التأنق في الحديث الممتع والإكثار منه  )؛ تطبيقاً لمذهب قدامى الندامى حين يقول قائلهم:

         لا تشرب الكأس بلا هـــدرة    ***    فإنــــــــــما اللذة للهادر

        ومتع النفس بما تشتهـــــــــي   ***     فالعفو عند الملك القادر

وقد مرً بنا في قطعة محمد الكرَّامي بن مايابا السابقة - مما له صلة بهذه الفقرة المتعلقة بتسخين الماء في المرجل عند إعداد الشاي -  قوله :

وأوقد ناراً  ثم ماءً بمرجل  ***   وأمهله حتى إذا ما تهوّعـــــا

كما أن من يتولى إيقاد النار وتعهد حشها وإضرامها يسمى " المسخر" ومهنته " السخارة " ولعل المصطلح مأخوذ من المعنى الوارد في القرءان الكريم " فاتخذتموهم سخريا " " ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " وقد سبق أن أوردنا قول محمد بن ابنو بن حميدة  - المتقدم ذكره - قاصداً هذا المعنى بالتحديد:

وخشية أن أكون كمثل شيب   ***    إذا قيم (الأتاي) " يسخرونا "

وقبل أن نختم هذه المعالجة لا بد لنا أن نورد نموذجا من أدب الشناقطة في الشاي لكن هذه المرة في جانبه النثري وذلك من خلال " القف " ( قدرحصة الدرس اليومي من مختصر خليل بن إسحاق المالكي ) المعروف " بقف الشاي " نظراً لما اشتمل عليه من مصطلحات سبق توضيح مفهومها والتعرض لبعض سياقات ورودها؛ جاعلين تلك المصطلحات بين قوسين تنبيهاً عليها؛ يقول مؤلف " القف " " (الأتاي ورق) مزج (بسكر) لا كقرنفل وحناء واستحسن (مفتوله) إن وجد (كإقامته) لذي فضل اعتاده؛ وحده (أربع) – وهو الأرجح- وفي إجزاء (الثلاثة) تردد؛ عند تعب وزمن شتاء وأكل بعض كلحم؛ وهل تكره (الحناوية) –نوع من الورقة _ أو تمنع خلاف؛ وهو بماء طاب (وسكر) اعتيد؛ لا (كباسط) - نوع من الشاي- وقلة رد وطمأنينة بين أركانه ورب الدابة أولى بمقدمها؛ ولإفراح صبي دقيق (سكر) (وكأس) من غير ومص (ورقة)؛ وندب تعيين الكؤوس واتقاء الشرب إن أمكن غير زائد حسن وطرافة مجلس بعبث أبيح؛ وحرم لمنفرد بين أراذل جداً كامرأة؛ وهل بقيد الجماعة أو بحسب العرف مطلقاً تأويلات؛ وكره (تسكيك) على كبراني ومسيء؛ كإدامته لمن لم يستقل به أو يعن عليه؛ إلا إن نودي وصبر عليه بلا انتهاء "

هذا ما تيسر إيراده في هذه المقاربة؛ ويبقى الجانب الملحون ( الحساني ) من أدب الشاي في هذه الثقافة الشنقيطية البيظانية؛ بانتظار من يتطوع لمعالجته معالجة موسعة ومقاربته مفاربة هادفة.

 * الدكتور محمد المصطفى بن مايابا  باحث موريتاني حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة محمد الخامس بالمغرب في الدراسات الإسلامية ويعمل حاليا مستشارا أسريا بدائرة القضاء بأبو ظبي ـ دولة الإمارات العربية المتحدة .
ـــــــــــــــــــــــــ

(1)  المراد بدُور " الغرب " في اصطلاح الشناقطة القدماء بلاد المغرب العربي الحالي وبالذات الحواضر الكبرى كمراكش وفاس ومكناس وطنجة وسجلماسة ووهران والقيروان ... وغيرها ؛ فالتعبير عن تلك البلاد بهذا اللفظ شائع معروف كقول محمدو بن محمدي العلوي ( ت : 1272 هـ) في قصيدته السينية المشهورة التي يمدح فيها سلطان المغرب الأقصى في زمنه السلطان مولاي عبد الرحمن بن هشام:
   هل في بكا نازح الأوطان من باس  ***   أم هل لداء رهين الشوق من آس
   أم هل معين يعين المستهام على    ***    ليل كواكبه شدت بأمراس
 آه لمغترب ( بالغرب) ليس له  ***   جنس وإن كان محفوفاً بأجناس  
 

1 التعليقات:

غير معرف يقول...

اعتقد ان الشاي لم يضف للأدب العربي شيئا جديدا وإنما تم استيعابه في المعطى الأدبي الفصيح باعتباره صنوا للخمرة ، عكس الأدب الحساني الشعبي الذي أثراه الشاي إثراء حقيقيا بل يمكن أن يقال إن الغن الحساني أبدع إبداعا كبيرا في تناوله للشياء وخلق غرضا شعبيا ربما لم يكن معروفا من قبل .
نحن بحاجة لمن يتطوع مشكورا فيكتب لنا في هذا المجال .

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : يحيى البيضاوي