ربما كانت شعوب المنطقة الواقعة على أطراف منطقة الصحراء الكبرى تحلم بأن تستيقظ ذات يوم على نبأ يفيد بأنه قد تم اكتشاف بحار من البترول أو الغاز تحت أمواج الرمال المتلاطمة في تلك القفار تسعف الوضع البائس الذي تعيشه شعوب تلك المنطقة ، وهي أمنية كان بعض الحالمين يرددها إلى وقت قريب ، غير أن الذي لم يكن يتوقعه أحد ضمن مجموعات الحزْرِ والتخمين تلك أن تتكشف تلك الأمواج الرملية عما يمكن أن نسميه بـ " لعنة الصحراء" عن بحر من الدماء يعمل على نشر الخوف والرعب يَنضاف إلى الجوع والمرض والفساد المستشري في تلك المناطق .
فلقد باتت قاعدة المغرب العربي اليوم لعنة حقيقية تتهدد ساكنة المنطقة دون استثناء ، وتخبّطها يمنةً ويسرة، وافتتاحها لجبهات مختلفة في وقت واحد يدل على أن تلك المنظمة
لا تمتلك استيراتيجية للسلطة وإدارة شؤون الشعوب على المستوى القريب على الأقل ، وواضح من تلك السياسة الدامية التي تنتهجها القاعدة أو لعنة الصحراء أنها منظمة تجاوزت مرحلة التشفي وأخذ الثأر من البلدان التي ساهمت في استجلاب تلك اللعنة وفي مقدمتهم الجزائر إلى أن أصبحت كالكلب المسعور الذي لا يميز هدفا من غيره .
وليس خافيا أن الجيش الجزائري هو الذي مهد لهذه المجموعة الإرهابية وخطط لها بادئ ذي بدء ورعاها حق الرعاية إثر انقلابه الشهير على الشرعية مطلع التسعينات من القرن المنصرم ، حيث بث مجموعة من ضباطه وجنوده ضمن المجموعات المسلحة التي رفضت الانقلاب وقاومته لتَعقّب مخططاتها وعرقلة أهدافها ، لكن الرياح دائما تجري بما لا تشتهي السفن فلقد انفرط العقد من يد القادة في الجيش الجزائري وتحول الجاسوس إلى إرهابي محنك واندمجت الخبرة العسكرية والتلصص مع الإرهاب وصناعة الموت فتشكلت لعنة الصحراء .
وبدل أن يلوم الإعلام الجزائري مناجم الإرهاب ومعادنه في الجيش الجزائري ومحيطه المشبوه ، نجده يتحدث بلسان متشفي عن الجيش الموريتاني حديثا لا يخدم حاجة المنطقة في التوحد والتلاحم لمكافحة ما اجترحه الجيش الجزائري نفسه في حقّ المنطقة من ويلات ومآسي بات الجميع تحت لظاها ، وهو أمر يثير العجب .
ويخطئ من يظن أن للقاعدة غاية محددة وأنه يمكن لأي جهة أن تتفادى الصدام معها ، فلقد دلت الأحداث المتسارعة لهذه المنظمة على أنها لا تمتلك أهدافا محددة بل كل النقاط الأكثر ضعفا في منطقة الصحراء وبلاد المغرب العربي هي أهداف حقيقية لها ، ولهذا نجدها بادرتنا بالاعتداء يوم أن أغارت على ثكنة المغيطي في الشمال وأسقطت عشرات الشهداء وسرقت المعدات وبثت الرعب في سكان المنطقة آنذاك لا لشيء إلا لأننا النقطة الأضعف في المنطقة ، ثم عاودت الكَرّة مرة أخرى في موقع الغلاوية ثم في تورين فقتلت ونهبت قبل أن تتوارى في الصحراء ولقد تطورت عمليات القاعدة لتدخل مرحلة نوعية عندما بدأت تصدر إلى مجتمعنا عمليات التفجير والخطف فقررت بذلك أن تغتال شعبا مؤمنا لم يعرف العنف أبدا ولم يستسغ يوما قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وتسللت في غفلة إلى عقول شبابنا وجعلت منهم بؤرا تنزع إلى الإرهاب وتُشِيعُ منطقَ التزمّت والعنف داخل مجتمعنا الآمن عبر تاريخه الطويل .
وتأتي الضربة الاستباقية التي قام بها جيشنا الباسل تعزيزا لمكاسب بدأت تتجمع في يد جيشنا الوطني في العهد الجديد بعد أن قضى على قافلة المخدرات وتوريد السلاح التابعة للقاعدة في الأشهر الماضية ، وهي رسالة يؤكد الجيش من خلالها أن المبادرة في مباغتة العدو باتت ملكه وأنه ماض في أخذ الثأر لشهدائه ومن أجل أن يضع حدا للتصرفات المجنونة التي تقوم بها القاعدة من حين لآخر في المنطقة وعلى حدودنا وفي شوارعنا ، ومن واجبنا أن نتفهم خطورة تلك المنظمة وأن نخلق جبهة قوية تصطف وراء جنودنا البواسل لتعزز من مواقعهم في مواجهة الخطر الإرهابي الماحق لا أن نعمل على نشر التشكيك والأكاذيب ونختلق مسوغات لا توجد أصلا لنبرر بها أفاعيل الإرهاب وأن نقلب موازين العدل والمنطق رأسا على عقب لمصلحة زيد أو عمرو من الناس .
وفي هذا الصدد أجدني مشمئزا للغاية من موقف المعارضة الذي كان ضعيفا و دون المستوى بعد عملية يوم الخميس الماضي وليس في محله إطلاقا ، فخطاب المعارضة الفاتر إلى حدّ التمالئ كان ينبغي أن يستبدل بخطاب متحمس مساند لجيشنا الوطني مدافع عن أرواح الشهداء الذين سقطوا على الحدود بدم بارد وأقطاب المعارضة يومها يعيشون أحلامهم في سبات عميق ، يوم أن انطلقت القاعدة لتنهل من دماء الشهداء وبدون مبرر يذكر ، ولم يسجل التاريخ أن نظما ديمقراطية عملت على انتزاع روح المبادرة من جيشها وقواتها الأمنية التي تعيش صراعا مفتوحا مع عدو متلون غير تقليدي بحجة الديمقراطية والقانون ، بل إن القول بضرورة أخذ الإذن من البرلمان للتصدي للإرهاب يعتبر مشاركة في سفك دماء جنودنا ويفتح أبوابَ حدودِنا ويعرّي مؤسساتنا الوطنية للإرهاب من أجل أن يفعل فيها أفاعيله ، وهو أمر غير أمني وفي غاية السذاجة وبعيد عن القانون وروحه .
ولا يسوغ ذلك القول أن العملية تمت بالتنسيق مع جهات أخرى ، فالحرب على الإرهاب حرب عالمية والتنسيق الأمني أمر مبرر عقلا وشرعا في مواجهة الخطر المؤكد الذي تشكله القاعدة على الأمن الوطني والإقليمي والدولي ، بل ثمة معلومات نوعية لا يمكن لبلادنا أن تحصل عليها إلا من خلال التنسيق مع جهات أخرى تمتلك القدرة التقنية والفنية للحصول على تلك المعلومات ، ولهذا كانت الدول المجاورة تتفهم ذلك ؛ بل لقد قبلت دولة مالي أن يتجاوز التنسيق مستوياته النظرية إلى الدخول في إدارة عمليات نوعية على أراضيها ، ولم تتحرج من ذلك .
ولا بد أن تدرك المعارضة أن المقدسات ليست مجالا للتنازل ومجاذبة المصالح ، فأمن البلاد وسلامتها لا ينبغي أن يكون مجالا لِليّ الأذرع وثني الأعناق فمصالح البلاد الكبرى فوق كل اعتبار .
ويجب أن يتعامل الجميع مع الإرهاب على أنه شر مستطير لا منطق له ، يتحرك كما تتحرك المجانين ، فلو كان للإرهاب منطق لحشد قوته للجهاد في المناطق التي نزل بساحتها العدو واحتلها جهارا نهارا ، ولصان دماء المسلمين التي أصبحت تراق في كل مكان لا حرمة لها ، ولو كان للإرهاب منطق لسعى إلى خير الشعوب وسَدّ حاجاتها من المأكل والمشرب والأمن بدل نشر الرعب وسفك الدماء ، ولو كان للإرهاب مشروع حضاري حقيقي لما فتح على نفسه جبهات متعددة جعلت الناس تتبرم من تصرفاته الطائشة في المنطقة كلها .
ويجب أن تدرك الجهات المسؤولة أن للإرهاب مستويات مختلفة ومراحل متعددة يمر بها قبل أن يستفحل خطره ويتطاير شرّه يجب عليها أن تتبعها و أن تقضي عليها قبل أن تتطور وتصبح خطرا حقيقا أكثر تعقيدا يستدعي قوة أكبر ، ولا بد أن تدرك تلك الجهات أن غياب ثقافة الديمقراطية في عالمنا الثالث يجعل من الديمقراطية مجرد أداة تستغل دائما لصالح الإرهاب وتنمية مصادره ورعاية منابره ، وهو أمر يجعل من رعاية الديمقراطية وحمايتها حتى لا تستغل للإرهاب وبيئته أمرا واجبا على الجهات المسؤولة والرسمية .
وإذا كان علينا أن نمد اليد للحوار والنقاش بشكل دائم فإن الخبرة تؤكد أن الحوار لا ينفع إن لم تكن له قوة تحميه، فصحيح أنه من واجبنا أن نرفع غصن الزيتون باليد اليمنى لكن لا بد أن تكون اليد اليسرى مستعدة لحمايته والذود عنه وردع من تسول له نفسه إسقاطه من أيدينا بدون ثمن .
0 تعليق على موضوع : متى كان للإرهاب منطق ؟
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات