إ نبذة عن حياة الوالد محمد الكرامي ( الشيخ ابوه القاضي ) رحمه الله / بقلم : الدكتور محمد المصطفى بن ابُّوه بن مايابى ~ يراع ـ البيضاوي

الجمعة، 22 يناير 2016

نبذة عن حياة الوالد محمد الكرامي ( الشيخ ابوه القاضي ) رحمه الله / بقلم : الدكتور محمد المصطفى بن ابُّوه بن مايابى



الشيخ ابوه القاضي رحمه الله
نبذة عن حياة الوالد محمد الكرَّامي ( ابُّوه ) بن مايابى المعروف ( بالشيخ ابُّوه القاضي علَماً ) ([1])
نسبه ومولده :
هو محمد الكرَّامي  (ابُّوه ) بن سيد محمد ( بابَّ ) بن محمد الكرَّامي ( ابُّوه الكبير) بن الشيخ سيدي عبد الله بن سيد أحمد الملقب  " مايابى" الجد الجامع للأسرة ، اليوسفي الجكني  ( فخذ أهل أيَّ ) .
وُلد الوالد ابُّوه - رحمه الله - في بداية العقد الثالث من القرن العشرين :

أي في حدود سنة 1922 أو سنة 1923م على سبيل التقريب ؛ لأبيه سيد محمد بن محمد الكرَّامي وأمه زينب بنت سيد عبد الَّ ( الّل َّ)  بن عبد الَّ ؛ 
 وكان والده سيد محمد مشاركاً في علوم عصره ومعارف أهل زمنه من فقه وقرآن ونحو وقد ذكر العلامة الشيخ محمد عبد الله بن الصديق - رحمه الله – عن نفسه أنه درس – مع لِداته من إخوته وبني أخواله - مقدمة  " ابن آجروم " في النحو على جدّنا سيد محمد هذا ( بابَّ ) ؛ كما عُرف بالعزلة والظرافة وانتقاء الجلساء ؛ مع الإقبال على تدبير شؤونه الخاصة والاهتمام بأنعامه ( بقر- غنم )
أما والدته زينب بنت عبد الَّ ( التمَّه ) فقد عُرفت بالديانة والفضل والكرم وحسن التدبير لنفسها ولمن حولها من إخوانها وأخواتها وأولادهم ؛ وكذا سائر جيرانها والمرتبطين بها من مجموعتها " فريقها " الذي كانت هي القائدة الفعلية له ؛ حيث يقيم ويرحل تبعاً لأمرها ونهيها .
نشأته ودراسته :
نشأ الوالد ابُّوه – رحمه الله – بين أحضان هذين الوالدين المتميزين ديناً وعلماً وحسباً ونسباً ؛ كما ترعرع في محيط أسرتين كريمتين : بيت آل مايابى ذائع الصيت لا زال نبع العلم والدين في عقِبهم سارياً ومنار المجد في ربوعهم عالياً ؛ وهو الذي يقول فيه العلامة محمد عبد الرحمن بن جدود بن اكتوشني العلوي :
بيت (ابن مايابى) تاتيه العلوم ولم *** تأت العلوم سوى بيت (ابن مايابا)
ما ناب من مشكلات العلم فأت به *** بيتَ (ابن مايابى) يفتح عنك ما نابا

أما أخوال الوالد ( أهل عبد الَّ ) فهم بيت عزّ وكرم وجود وسؤدد في قبيلة أهل أيَّ وفيهم يقول الأديب أحمد بن بيَّ الجكني مخاطباً السلطان المغربي مولاي عبد الحفيظ بن الحسن العلوي (ت : 1932م ) ؛ عند ما قدم عليه وفد الهجرة (أبناء مايابى وأبناء عبد الله وأبناء البيضاوي ) إبّان طلوع الاستعمار الفرنسي على بلادهم بلاد شنقيط مطلع القرن العشرين :
(بنو أيَّ) الكرامُ أتاك منهم *** سنام ليس يعدله سنامُ
إلى (عبد الَّ) ينتسبوا جميعاً *** كرامُ الأصل أنفسهم كرامُ
كرامً بالنفوس لدى المنايا *** وإن قالوا : دراهمَكم كرامُ
يسومون المكارم غاليات *** ولا بالضيم أنفسُهم تُسامُ
في محيط هاتين الأسرتين وبين ذينك الأبوين نشأ الوالد كما " ينشأ ناشئ الفتيان " من قومه وبني جلدته فدرس القرءان ومبادئ العلوم الشرعية واللغوية في محيطه الأسري على والده وبعض أبناء عمومته بحسب المتعارف عليه في مجتمعه ؛ حيث تتلمذ في فترة دراسة القرءان الأولى " الذهابه " على أحد أبناء العمومة هو محمدّو بن السّالم بن محم - رحمه الله - وهو من الزهاد العباد المعروفين بالمهارة في فن القرءان الكريم ؛ بيد أنه لم يأخذ عليه - ولا على غيره - الإجازة في تلك الفترة ؛ رغم  إتقانه شروطها ( الرسم والمقرأ ) آنذاك ؛ بل إنه لم يأخذها إلا بعد ذلك بعقود ؛ عندما احتاج لها زمنَ تعيينه في القضاء أواخرَ عقد السبعينات من القرن الماضي حيث استجاز ابن خالته شيخنا - وأحد كبار مشايخ العلم في منطقة آفطوط -  العالم الشهير محمد العاقب بن بيدر بن الإمام الجكني ؛ فأجازه في قراءة نافع بروايتي ورش وقالون وعندما تجاوز الوالد ابُّوه – رحمه الله - مرحلة المتون العلمية التي تدرس عادة في المحيط الأسري وبلغ أشُده وبلغ مرحلة الاستقلال بنفسه ؛ انتقل إلى محظرة العلامة الشهير " لمرابط اباه " بن محمد الأمين اللمتوني  وهي محظرة متخصصة مشهورة على مستوى البلد عامّة ؛ وذلك حرصاً على التفرغ للدراسة بعيداً عن مشاغل الأهل اليومية ؛ وفيها درس مختصر خليل وتحفة ابن عاصم ومنهج الزقاق في الفقه وقواعده ؛ كما درس مراقي السعود في أصول الفقه وبعض ألفية ابن مالك في النحو والجوهر المكنون في علم البيان ؛  وسُــلَّم الأخضري في المنطق و"احمرار" عبد السلام العلوي عليه ؛ وقد سمعته - رحمه الله - يذكر – أكثر من مرة – أنه لم يُكمل دراسة الألفية بسبب رأي شيخه " لمرابط ابّاه " ورغبته في أن يقدم دراسة " السُّلَّم والاحمرار" في المنطق على دراسة الألفية ؛ ربما بسبب ندرة الدارسين لهذا الفن لكونه من الفنون المكمّلة التي لا يلتفت إليها  الطلبة – عادة - إلا بعد استكمال معظم الفنون المعروفة من فقه وأصول وقرءان ونحو وصرف وربما تفرُّساً من " لمرابط " – رحمه الله – أيضاً بأن الوالد وأضرابه من أجاويد الطلبة هم خير من يقوم بفرض الكفاية عن الأمة في دراسة هذا الفن الذي عُرف بصعوبته وحاجة من يدرسه إلى ذكاء خارق وقريحة ثاقبة  .
وتجدر الإشارة إلى أن الوالد " ابُّوه " – رحمه الله - ربما يكون قد مرَّ – خلال مرحلة الطلبِ والتحصيل العلمي هذه – بمحظرة أهل الإمام (محمد العاقب بن بيدر بن الإمام) ؛ أو جلس فيها فترة مّا ؛ لكن المؤكد أن ذلك لم يطل قبل أن ينتقل إلى محظرة " لمرابط اباه " التي استكمل فيها دراسته وأخذ منها جُل معارفه كما رأينا .
ويمكن القول - أيضاً -  إن فترة دراسة الوالد في محظرة " لمرابط اباه " قد مكّنته من التعرف على معظم رجال العلم ومشايخه في منطقة " الرقيبة وآفطوط " الذين تخرج أغلبهم من هذه المحظرة أو كان له بها إلمام خلال  فترة التحصيل والطلب .
مرحلة التكسُّب والسعي في طلب الرزق :
في بداية الخمسينات من القرن الماضي عاد الوالد ابُّوه – رحمه الله – من محظرة لمرابط " اباه " بعد أن استكمل دراسته المحظرية ؛ وبدأ يفكر في طرق باب العمل والتكسّب ؛ وكغيره من معاصريه ورجال قومه كانت تجارة جلب المواشي من الحوض ومالي وبيعها في دولة السنغال المجاورة " الجلابة " هي التجارة الرائجة في ذلك الوقت ؛ فدخل – رحمه الله – ذلك المجال مع الداخلين وأدلى بدلوه مع الساعين ؛ منطلقاً من قناعة راسخة بأهمية الجد والمثابرة في نيل المطالب ؛ منشدا بلسان حاله :
وما نيل المطالب بالتمني  *** ولكن ألق دلوك في الدلاء
تجئك بمِلئها طوراً وطوراً *** تجئك بحمأة وقليل ماء
وهكذا استمر الوالد طيلة عقد الخمسينات ونيِّفاَ من عِقد الستينات من القرن الماضي في ممارسة هذا النوع من التجارة ؛ التي تتطلب رحلتين "كرحلتي الشتاء والصيف" حيث يذهب التجار ( الجلابة ) لشراء الماشية  وجمعها من الحوض ومالي أواخرَ الصيف وبداية الخريف ؛ وربما أخذت فترة الجمع والشراء هذه ربعَ شهور السنة ؛ ثم يقومون بسَوقها – على مهَلهم وربما أوقفوها ربعاً آخر من السنة أو أكثر أو أقل بحسب الحاجة - حتى يوافوا بها السنغال زمَن عيد الأضحى المبارك ( الْبرِيقه ) الذي يعتبر الموسم المناسب والفترة الذهبية لبيع الحيوان نظراً لاهتمام أهل تلك البلاد بشعيرة "الأضحية" التي يحرصون على تخيرها  - في تفاخر وتباه - من تلك الأنعام المجلوبة إلى بلدهم من طرف " الجلابه " الموريتانيين .
ولا شك أن الوالد – رحمه الله – قد اكتسب – من ضمن ما اكتسبه خلال هذه المرحلة من حياته - مهارات كثيرة وخاض  تجارب عديدة ؛ نتيجة التعايش مع معظم المجتمعات ؛ والاختلاط بمختلف الأجناس والأعراق ولقد سمعته يحدث بكثير من الوقائع والأحداث التي تعود إلى هذه الفترة من حياته
مرحلة الزهد والتصوف :
ومع انتصاف عِقد الستينات من القرن الماضي يدخل الوالد " ابُّوه " – رحمه الله - مرحلة بارزة أخرى من مراحل حياته ؛ هي مرحلة الزهد وطرق باب التصوف ؛ وربما كان لوفاة الوالدة زينب (التمّه) في تلك الفترة أثرها الكبير عليه وعلى سائر محيطه العائلي والأسري ؛ مما جعله يعيد الحسابات ويراجع نظرته إلى الحياة وهي المراجعة التي أسفرت عن قراره لبسَ عباءة التصوف وقصر معظم الوقت على السعي في تزكية النفس والترقي بها في مدارج الكمال  ؛ ومن ثم قرّر التوجه  إلى حضرة آل الشيخ أحمد أبي المعالي بن الشيخ الحضرمي التاقَّاطيين والانتظام في سلك  التصوف على أيديهم([2]) من خلال مصاحبة الشيخ الزاهد الناسك الورع الشيخ محمد [3]المصطفى بن الشيخ أحمد أبي المعالي- رحمه الله -  الذي كان " الخليفة " وشيخ الحضرة آنذاك ؛ مع الإشارة إلى أن الوالد كان قد لقي الشيخ أحمد أبا المعالي زمن الدراسة في محظرة " لمرابط اباه " حيث كان الشيخ أحمد يمرُّ بها في بعض الأحيان ؛ ويعقد مع  " لمرابط  اباه " جلسات مناظرة ومساءلة يحرصان - معاً - على أن يحضرها كبار الطلبة والمتميزون منهم ؛ كما أن مجتمع الوالد (أهل أيَّ ) يعتبر من أكثر المجتمعات الجكنية ارتباطاً بتلك الحضرة وتتلمذاً على قطب رحاها الشيخ أحمد أبي المعالي؛ ومع ذلك لم يُقدر للوالد ابُّوه - حسب علمي – ([4]) أن يتتلمذ عليه في حياته رغم سطوع نجمه وكونه كان ملئ السمع والبصر في تلك الفترة .
هو الشيخ الكبير( أبو المعالي )  ***  أبوه (الحضرمي ) له سمي   
له تُعزى المعالي وهو يُعزى  ***  لها نسب من الدعوى نقي([5])
***
كأنّ المعالي بين عينيه خيَّمت *** وقرّت على الأخلاق منه ودرّت
أبوه أبوها وهو معنىً شقيقها *** فكان حقيقاً عندها بالمبرة  ([6])  
ولم أسمع من الوالد – رحمه الله – ولا من غيره - كم كانت مدة جلوسه عند حضرة آل الشيخ أحمد أبي المعالي بعد مصاحبة الشيخ محمد المصطفى؟ إلا أني أظن أن جُل ذلك الارتباط كان من خلال الزيارات في الأعياد والمناسبات الدينية كعيدي الفطر والأضحى ومناسبة المولد النبوي الشريف ؛ حسبما هو المتعارف عليه بين تلاميذ تلك الحضرة ومحبيها ؛ من غير أن يقيم فيها  إقامة دائمة ؛ وقد نال الوالد " التصدير" من شيخه الشيخ محمد المصطفى وحلّاه بلقب " الشيخ " ولكن لا أدري هل تمَّ ذلك في المرة الأولى ؛ أم في أحد مواسم الزيارات اللاحقة ؛ ليُعرف بعد هذا التصدير بلقب (الشيخ ابُّوه ) فترةً من حياته ثم (بالشيخ ابُّوه القاضي ) - علَماً – في مرحلة أخرى لاحقة بعد دخوله سلك القضاء .
وقد شهدت هذه المرحلة من حياة الوالد – والتي فاقت العقد من السنوات – عزوفه عن الدنيا وزهده في مختلف مباهجها وتركه السفر والتكسُّب – أو لنقل الحرص على ذلك  – مما انعكس على ضيق ذات يده - نسبياً - في هذه المرحلة  من حياته ؛ لكنه ظل – على الرغم من كل ذلك - عفيف النفس نقي العرض مصون الجناب :
أنِفتَ عن الدنيا وعن زرَجونها  ***  ولو شئت ما أعياك أن تتورَّقا
ولكنها نفس الكريم تصونه      ***   إذا صانها أن تُسترق فأعتقا
بيد أنه كان يعتاض عن كل ذلك بارتباطه شبه اليومي - خلال هذه المرحلة من حياته - بمجموعة من تلاميذ شيخه في التصوف عُرفوا بالإقبال على الله والأنس به وحُسن ونداوة الصوت بذكره ؛ مُشكّلين ما عُرف – محلياً في مجتمع أهل أيَّ - " بالطايفة " التي كان يعتبر المرحوم عال بن بيَّ  - رحمه الله - (توفي سنة 2003) أهمَّ أعضائها ([7]) وأنداهم صوتاً بذكر الله ؛ حيث تقشعر لذكره الجلود وتلين له القلوب من خشية الله :
إذا مرضنا تداوينا بذكركمو *** ونترك الذكر أحياناً فننتكسُ
***
شجى وشفى لمّا شدا وترنّما    *** فهيَّج أيقاظاً وأيقظ نوَّما
وكيف لا ؟ والذكر هو حياة القلوب وربيع الأرواح :
والذكر فيه حياة للقلوب كما    *** تحيا البلاد إذا ما مسَّها المطرُ
لا ينفع الذكرُ قلباً قاسياً أبداً   ***   وهل يلينُ لقول الواعظ الحجرُ

حيث كانت هذه الجماعة "الطايفة" تجتمع ليلاً عند خيمة أحد أفرادها – والغالب أن يتم ذلك عند الوالد – فيتسامرون على الشاي والذكر ؛ وربما تخلَّل  ذلك بعض النشيد من رائق شعر المحبة والأذواق؛ مما يشنف الأسماع ويثير الأشواق ؛ ويزرع في النفوس الطمأنينة والسكينة ويثبت الإيمان ؛ مصداقاً لقول الحق – سبحانه – ((الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)) ؛ مستغنين دوماً بذلك عن أطايب الطعام والشراب ومفاكهة الحور الكعاب :
لها أحاديثُ من ذكراكَ تشغلها  *** عن الشراب وتغنيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيئ به  *** ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا تشكّت كلالَ السير أوعدها *** روحُ اللقاء فتحيا عند ميعاد
وغالباً ما يجتمع عليهم البعض من رجال الحي والجيران ؛ وقد لا ينفضَّ السامر حتى هزيع من الليل :
أولئك الناس إن عُدّوا وإن ذُكروا *** وما سواهم فلغوٌ غير معدود
***                                        
كرّر عليَّ حديثهم يا حادي  ***   فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي
هم القوم لا يشقى بهم الجليس ولا يملُّ من ندب " حماهم " النازل والجار الأنيس
وأذكر أيام الحِمى ثم أنثني  *** على كبدي من خشية أن تصدّعا
وليست عشياتٌ الحِمى برواجع *** إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
مرحلة القضاء والعمل الحكومي :
في أواخر عقد السبعينات من القرن الماضي ؛ وبالتحديد في نهاية سنة 1978 ؛ وأثناء وجود الوالد " ابُّوه " - رحمه الله - في العاصمة نواكشوط  التقى- كالعادة - نجل أشياخه العالم العلامة معالي الوزير والسفير السابق الدكتور عثمان بن الشيخ أحمد أبي المعالي – حفظه الله – وصادف أن كانت تُعقد – حينها- مسابقة لاكتتاب قضاة شرعيين ؛ فعرض الشيخ عثمان على الوالد فكرة المشاركة فيها ؛ ولكن الوالد أبدى بعض التحفظ المبدئي على الأمر ؛ حذراً من خطورة منصب القضاء وما ورد من التحذير في شأنه ؛ فضلاً عن النفور المعهود لدى الفقهاء التقليديين - وأحرى المتصوفين - من كل عمل حكومي وأحرى إذا كان في مجال القضاء ؛ إلا أن الشيخ عثمان أقنع الوالد بحجة الفقيه وجدل الأصولي ونظرة المفكر والمصلح الاجتماعي حينما قال له ما معناه : " أرى أنه يجب عليك وعلى أمثالك القبول – بل السعي- لمنصب القضاء ؛ لأنه إن تقاعس عنه أمثالكم من العلماء المؤتمنين على حقوق العباد فسوف يتقدم له غيرهم ممن لا تتوفر فيه تلك الصفات وعندئذ يسند الأمر إلى غير أهله ؛ وتضيع حقوق العباد ؛ وأخشى على أمثالكم أن يلحقهم من ذلك شيء "
وبعد هذه المحاورة اقتنع الوالد "ابُّوه" – رحمه الله – برأي الشيخ عثمان ودخل سلك القضاء قاضياً شرعياً فتمَّ تعيينه أول الأمر في مقاطعة " وادان " بولاية آدرار في شمال البلاد ؛ ثم انتقل منها بعد سنتين – تقريباً – إلى مقاطعة شنقيط المجاورة ؛ وفي أواخر سنة 1982 طلب التحويل إلى ولاية " لعصابة " بقصد القرب من أهله ومحيطه  الاجتماعي ؛ فتمَّ تحويله إلى مقاطعة " بومديد" فيها ؛ وجلس بها قرابة السنتين ؛ قبل أن يُنقل رئيساً لمحكمة مقاطعة " كيفة " المركزية أواخر سنة 1984م ؛ ولم يزل بها حتى عُين مستشاراً في محكمة الاستئناف " بكيفة " عاصمة الولاية سنة 1989 وهي الوظيفة التي ظل يشغلها حتى وفاته .
وقد حُمدت سيرة الوالد طيلة فترة تولّيه القضاء ولم تأخذه لومةُ لائم في إحقاق الحق وإقامة العدل متى قامت لديه الدلائل على ذلك ؛ كما حصلت له – خلال هذه الفترة – مواقف وأحداث مع مسئولين سامين ووجهاء نافذين أظهر خلالها الكثير من قوة الشخصية والصلابة في الحق ؛ رافضاَ أي تدخل في سير العدالة أو أيَّ إملاء فيما يتعلق بقراراته الصادرة في شأنها لسان حاله :
فما هو إلا الحقُّ أو حدُّ مُرهَف  *** تُقيم ظُباه أخدعي كل مائل
فهذا دواء الداء من كل جاهل ***  وهذا دواء الداء من كل عاقل
الوالد مع الشعر والأدب :
لم يكن الوالد ابُّوه – رحمه الله – شاعراً بالمعنى الحرفي المتعارف عليه للكلمة ؛ لكنه كان على اطلاع جيد ودراية قوية بمجال الأدب والشعر، فلقد سمعته مرة يفاضل بين " أحسن التشبيهات " في الشعر مستعرضاً نماذج من تلك التي يوردها أرباب الأدب ونقاده في هذا المضمار؛ كقول امرئ القيس في " التشبيه المزدوج" :
كأن قلوبَ الطير رطباً ويابساً  *** لدى وكرها العُنّابُ والحشَفُ البالي
وقول عنترة العبسي :
وخلا الذباب بها فليس ببارح *** غرداً كفعل الشارب المترنم
هزجاً يحكُّ ذراعه بذراعه  *** قدحَ المُكب على الزناد الأجذم
وقول عدي بن الرقاع العاملي في تشبيه بديع تمناه غيره من الشعراء :
تُزجي أغنَّ كأن إبرة روقه   *** قلم أصاب من الدواة مدادَها
ولقد رأيته – رحمه الله - يستجيد أغراضاً من الشعر غير الأغراض النمطية المعهودة في محيطه الثقافي ؛ من غزل ونسيب ومدح ورثاء ؛ ومن ذلك أني سمعته مرة يروي - بكثير من الاستعذاب والإعجاب - قطعة أبي نواس في وصف بعض المشاهد من قصور كسرى :
ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا  *** بها أثر منهم جديد ودارسً
مساحبُ من جرّ الزقاق على الثرى *** وأضغاث ريحان جنيُ ويابسُ
ولم أرَ منهم غير ما شهدت به   *** بشرقي " ساباط " الديار البسابسُ
حبستُ بها صحبي فجمَّعتُ شملهم *** وإني على أمثال تلك لحابسُ
أقمنا بها يوما ويوما وثالثا   *** ويوماً له يوم الترحُّل خامسُ
تُدار علينا الراح في عسجدية  *** حبتها بأنواع التصاوير فارسُ
قرارتُها كسرى وفي جنَباتها  *** مهىً تدَّريها بالقسي الفوارسُ
فللراح ما زُرّت عليه جيوبُها  ***  وللماء ما دارت عليه القلانسُ
كما كان له – رحمه الله - من معرفة غريب اللغة نصيب يحفظ شواهده من الشعر؛ سمعته مرة يستشهد على تفسير معنى " العُقر " بمعطن الإبل ؛  بقول غيلان ذي الرمة :
وكائن تخطت ناقتي من تنوفة    *** إليك ومن أحواض ماء مُسدّم
" بأعقاره " القردان هزلى كأنها  *** نوادر صيصاء الهبيد المحطم
وأما " المسدَّم " - أي المغطى بالغبار أو الطحلب - فاستشهد عليها بقول ليلى الأخيلية في توبة بن الحمير الخفاجي - ولعلّها أول مرة أسمع فيها باسميهما بله قصة حبهما - :
كأن فتى الفتيان ( توبة ) لم يُنخ  ***   بنجد ولم يركب مع المتغوّر
ولم يرد الماء " السَّدامَ " إذا بدا   *** سنا الصبح في عُقاب أخضر مدبر
هذه مجرد نماذج من " أماليه "  واستشهاداته الشعرية والأدبية ؛ ولعل تنوعها بين مختلف العصور الأدبية من جاهلي وإسلامي ينبئ عن سعة اطلاعه وتنوع قراءاته ومطالعاته الأدبية ؛ ونفس الشيء ينطبق بالنسبة له تماماً على الأدب الشنقيطي .
أما قرض الشعر وإنشاؤه ؛ فلم يُوله - بحسب الظاهر-  ما يكفي من الاهتمام ؛ حيث لم يؤثر عنه من ذلك إلا النزر القليل في بعض المناسبات التي تعدُّ على رؤوس الأصابع من قبيل " الإخوانيات " والمجاملات كمشاعرته مع ابن خالته الأديب اللوذعي محمد الأمين بن بيدر بن الإمام الجكني – رحمه الله - في شأن ماعز داجن " تغيارت " كانت تربّى في منزل محمد الأمين زمَنَ سكناه في مقاطعة " امبود" ولاحظ الحضور عنده - ومنهم الوالد - إحاطتها بنوع من التدليل من طرفه ؛ رغم ثقلها وكثرة إفسادها مثل أكل الملابس والتبوُّل على الفُرُش وما شابه ذلك ؛ فأنشأ الوالد في شأنها شعراً ؛ وردّ ابن الإمام مدافعاً عن " داجنه " وتبادلا بعض " الإخوانيات " في هذا السياق ؛ غير أني – للأسف – لم أظفر - حتى الساعة - بهذه المشاعرة.
وأما المجاملات فأذكر أنه في عام حجة الوالد سنة 1987م ؛ لقيَ ابن عمه الشيخ الفاضل العابد الزاهد أحمد خونا بن خطارُ بن الشيخ محمد العاقب بن أحمد بن بيَّ الشنقيطي - رحمه الله - وحرص هذا الأخير على دعوته – رفقة ابن عمهما الذي قدم حاجاً معه في تلك السنة أيضاً - العالم الأريحي الشيخ سيد محمد بن محمدي بن أحمد بن بي – رحمه الله – دعوتهما لزيارة أحد علماء منطقة الأحساء في شرقي المملكة العربية السعودية والذي قدم حاجاً هو الآخر في تلك السنة كذلك ؛ وهو الشيخ القاضي عبد الرحمن آل مبارك سليل الأسرة العلمية المالكية الشهيرة في تلك المنطقة ( أسرة آل مبارك ) وخلال البحث والمذاكرة أثنى الشيخ على ضيوفه وأسلافهم من علماء الشناقطة ؛ ثم استعرض نماذج من شعر قومه وأنشد الكثير من القصائد لنفسه ؛ كما أنشده الجماعة من شعر قومهم ؛ ولكنه ظل يعود لشعره الخاص ويغور فيه وينجد ؛ يقول الوالد : فقررت – حينها - أن أشعره بقدرتنا على قرض الشعر وإن لم يكثر مراسُنا له من قبل فارتجلت الأبيات التالية في مدحه والثناء على علمه من باب الملاطفة  ورد الجميل فقلت :
فلله من حبر عظيم محبّر  *** يتطريز نشر الصعب من كل ما علم
عرفناه في " عرفات " بالحج عندما *** رفاق حجيج البيت كانت بذا اليوم
ففاض بنشر الصعب من كل غامض  *** بعيد منال الفهم عن كل ذي فهم
وأنهلَنا من حلو صفو زلالِه  *** معانيَ من نثر البديع ومن نظم
تُسُمِّي هذا الشيخُ باسم عرفتُه  *** بأفضلَ ما يُسمى به المرءُ من اسم
ونال بمجد من جدود أجلة   *** ( تبارك آل القوم ) بالعلم والحلم
ولا بدّ من الإشارة إلى أن الوالد ابُّوه – رحمه الله – كان على معرفة ودراية – أيضاً – بالتاريخ والسيرة النبوية والتفسير وقصَص القرءان ؛ فقد كنا ننتهز فرصة عطلة نهابة الأسبوع ( لخميسه ) لنطلب منه أن يقُصّ علينا بعض قصص الأنبياء مثل قصة نوح وهود وصالح وإبراهيم ويوسف وشعيب  وغيرهم من الأنبياء والرسل الذين فصّل القرءان في ذكر أحوالهم مع أقوامهم  وقد كنا ننتظر هذه المناسبة بفارغ الصبر لما نجد من المتعة والأنس في هذا النوع من الحديث والقَصَص :
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل   *** بمنتظمات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع *** لذي إربة في القول جدّاً ولا هزلا
سمته وعبادته :
كان الوالد ابُّوه – رحمه الله– رجلاً رُبَعة ليس بالطويل ولا بالقصير؛ وإن كان أقرب إلى القصر أخضر(أسمر) في صفاء لون وقوة جسم وحسن صورة باد للعيان ؛ له هيبة وجلالة ؛ يهابه الرائي والناظر أولَ الأمر ؛ ثمّ لا يلبث أن يألفه ويأنس إليه بعد ما يخالطه ويعاشره :
وتعرف فيه من أبيه شمائلاً  *** ومن خاله ومن يزيد ومن حُجُر
سماحة ذا ووفاءَ ذا ونـــــا   ***      ئـلَ ذا إذا صحا وإذا سكر
وكان – رحمه الله – برّاً بأهله وأولاده عطوفاً على الصغار منهم ؛ رحيماً بالضعاف والمساكين؛ وكان على دراية بكل مهارات أهل زمنه من حلب وسلخ وفتل ؛ فضلاً عن الرِّعية  والرماية  والصيد ؛ ولم يكن يظهر لمن يراه إلا كما يظهر أي رجل عادي من رجال "البيظان" يحلب بقرته وشاته  ويطعم نعمه  ويقيم حظيرته ويسقي نخله ويدبر شؤون أسرته .
أما عبادته الظاهرة فكانت منافع المسلمين من نفقة وتوسعة على العيال وقرىً للأضياف وصلة وبرّ بالأقارب والأرحام ؛ حريصاً على أن يبُل كل رحم ببَلالها ؛ وأن يسَع الجميع بحسن خلقة ولطفه ويعمهم برفقه وعطفه وفي هذا السياق أذكر أن للوالد - رحمه الله - اهتماماً خاصّاً بالرحِم المتطرّفة النائية كبنات العم والأقارب المولودين في مجتمعات وقبائل أخرى غير مجتمع (أهل أيَّ ) ؛ حيث يحرص على وصلِهم وتقريبهم وإحياء ما انقطع من حبل ودهم ورحمِهم .
وأما في عبادته الخاصة (الباطنة) فقد كان - رحمه الله – بعيداً عن الرياء والتظاهر بما يعمله من ذلك لله – وهو كثير – حيث كان له ورد من القرءان – أحسبه خمساً – يقوم به الليل " كدأب الصالحين من قبله " يرتله بصوت شجي على حسب ما يسمح به الوقت ويقتضيه المقام ؛ لا يكاد يتركه - في سفر أو حضر- إلا لضرورة مرض مقعد أو نحوه من حدث جلل مشغل ؛ أما الذكر – من تسبيح وتهليل وتحميد ودعاء – فقد كان له منه النصيب الوافر وله فيه المقام المشهود ؛ أسأل الله تعالى أن يتقبل منه ذلك وأن يثقل به ميزانه (( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ))   .
الوالد والتأليف :
لا شك أن التأليف والتصنيف يحتاج – في أغلب الأحيان – إلى قدر من التفرغ ومبارحة الشواغل الأخرى فضلاً عن البيئة الحاضنة والحياة المستقرة ؛ ولعل هناك العديد من المشاغل والصوارف التي صرفت الوالد عنه بعد تصدّره واستكمال تعليمه  ؛ أولها الاشتغال بالسعي في طلب الرزق مباشرة بعد التخرج ؛ وانقضاء  الجل من زهرة العمر وجدّته ونشاطه  في السفر من أجل ذلك ؛ كما أن المرحلة التي تلت هذه المرحلة – وهي مرحلة التصوف - لم تشكل هي الأخرى حافزاً على اقتحام هذا الميدان لما يعرف خلالها – في العادة -  من الزهد وإيثار الخمول والعزلة واتهام النفس في كل ما من شأنه الشهرة والتصدّر حتى وإن كان مجال العلم .
وقد تكون المرحلة الأخيرة من حياة الوالد - وهي المرحلة التي مارس فيها القضاء - أنسب المراحل للاشتغال بالتأليف ؛ لكنها - هي الأخرى-  لم تخلُ - أيضاً - من عوائق ومشاغل حالت دون ذلك أهمُّها الكِبَرُ و كَلال الحواس ؛ بالإضافة إلى هموم المهنة ومكابدة التنشئة والتربية ، على أن الوالد كان قد أزمع – قبل سنتين من وفاته – إحياء فرع من محظرة أسرتنا ( آل مايابى ) والتفرغ من العمل الحكومي للتدريس فيها والقيام على تدبير شؤونها ؛ وقد حصل بالفعل على ترخيص رسمي له بذلك من كتابة الدولة لمحو الأمية التي كانت الجهة الوصية على قطاع التعليم الأصلي آنذاك ؛ وهو ما كان – لو تمَّ على الوجه المأمول – سيمكنه من قصر بقية عمره على الجهد العلمي من تدريس وتأليف ؛ وإن بقيت الحظوة والتوفيق في التأليف هبة ربّانية  ورزقاً مقسوماً " فرُبَّ رجل فُتح له في الصوم ولم يفتح له في الصلاة وآخر فُتح له في الحج ولم يفتح له في الجهاد  ... وهكذا الخ " كما يؤثر عن إمامنا مالك رحمه الله، وكما يذكر عن الحافظ ابن حجر العسقلاني أنه كان يقول – بعد أن لم يتحقق له كل مأموله في ولده بدر الدين رغم ما أولاه من عناية – كان يقول " قلّ أن يجتمع الحظ لأحد في ولده وكُتُبه "
لذلك لم يترك الوالد ابُّوه – رحمه الله – من العلم إلا ما بثّه في  صدور الرجال أو ما تضمنته مجموعةُ الأحكام القضائية التي أصدرها خلال فترة توليه القضاء  ؛ بيد أنه عمل على تحرير رسالتين علميتين : إحداهما في جواز جبر الحاكم وتصرفه بالإكراه في مال الغير من رعيته ([8])  والثانية في " عربية " قبائل " صنهاجة".
وفاتـــــــــــــــــــه :
بعد عمر ناهز السبعين عاماً من الجدِّ والتشمير والسعي في طلب مرضاة الله ؛ وفي يوم صائف قائظ  من أيام الصيف ؛ هو الخامس من شهر مايو من سنة 1992م ؛ وأثناء عودة الوالد " ابُّوه " من عمله بعد الساعة الواحدة زوالاً – كما اعتاد - توفي– رحمه الله –  على إثر إصابته في حادث سير عارض عند منحدر طريق الأمل الواصل بين حيي "ألاق وسقطار"  في مدينة كيفة ؛ حيث أصيب في الصدر وتمً نقله إلى مستشفى الصين القريب من موقع الحادث ؛ ولم تكن الإصابة بالغة في الظاهر ؛ كما أخبرنا -  بعد ذلك - ابن عمنا الدكتور الفاضل المختار بن آمّين الذي كان مدير المستشفى آنذاك وأشرف بنفسه على محاولات إسعاف الوالد  لكن القدر كان أسبق كما قال تعالى: ((فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )) .
وبذلك انطفأت شمعة هُدىً طالما أضاءت ليلَ المناجين؛ وغارت عينُ خير وبرّ طالما أطفأت ظمَأ الصّادين ؛ وغاب بدر طالما أنار الدرب للسارين ؛ وغربت شمس طالما كانت دِفئا للمقرورين ؛ فوقع الخبر كالصاعقة علينا جميعا ولكنه كان على الوالدة والمتواجدين معها من صغار أفراد أسرتنا ( عائشة وحدمين وزكريا ) ([9]) أشدّ وقعاً وإيلاماً  " فما راء كمن سمع " - كما يقال - وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة :
لا يعرف الشوق إلا من يكابده   *** ولا الصبابة إلا من يعانيها
وبعد ما انتشر الخبر في المدينة وضواحيها انتشار النار في الهشيم حضر أهلنا وإخواننا من أهل قرية "انتاكات " مسرعين ؛ كما حضر معهم العديد من أبناء العمومة اليوسفيين ( إديشَّف ) وغيرهم من الجيران والمعارف الذين أظهروا لنا- لحظة ذلك المصاب الجلل – الكثير من جميل الأخوة وعظيم التعاطف - فجزاهم الله خيراً أجمعين - :
وكم من أخ ليست بأمك أمُّه   *** متى تدعُه للروع ياتيك أبلجا
يواسيك في الجُلّى ويحبوك بالندى  *** ويفتح ما كان القضا عنك أرتجا
وهكذا قام الجميع  بالإشراف على تجهيز جنازة الوالد ونقلها ليُدفن في مقبرة " انتاكات " بجوار عمّه سيد أحمد بن محمد الكرّامي " الداه " وغيره من أفاضل وأكابر أسرتنا كالشيخ بن محمد سيد عال وشيخنا بن محمد نورالدين رحم الله الجميع  :
أولئك آبائي فجيني بمثلهم    ***  إذا جمعتنا ( يا جرير ) المجامع
***
ولقد عمّ الرزء والمصيبة بوفاته - بعدنا - كل عشيره وقبيله وسائر المسلمين من حوله " فموت العالم ثلمة في الإسلام " و" إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء  ..." :
وما كان ( قيس ) هُلكه هلكُ واحد  ***  ولكنه بنيان قوم تهدّما
ولكم بكاه البعيد قبل القريب واختلط يوم رحيله النشيج بالنحيب
ألا إن عينا لم تجُد يوم واسط   ***  عليك بجاري دمعها لجمود
***
مضى لسبيله من كنت ترجو  ***   به عثرات دهرك أن تقالا
فلست بمالك عبرات عين     ***    أبت لدموعها إلا انهمالا                                                
وفي الأحشاء منك غليل حزن  ***    كحرّ النار تشتعل اشتعالا
بل يُخيل إلينا أن الشجرة الكبيرة (التيشطاية ) المنتصِبة في منزلنا بحي " سقطار " غربي مدينة " كيفة " قد حزنت على الوالد - هي الأخرى - لما سوف تفقد – بعده - من ذكر وقرآن طالما تردد صداه في جنَبَاتها  ودار مع دورَان ظلِّها ؛ ولا غرابة في ذلك فالجماد يحنُّ لذكر الله ؛ مصداق ذلك قول الحق سبحانه (( فما بكت عليهم السماء والأرض ... )) الآية - في أشهر تأويلاتها - حين يبكي على المؤمن مسجده ومصلاه ؛ وكذلك قصة الجذع الذي كان يخطب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل اتخاذه المنبر؛ وعندما تحول عنه - بعد بناء منبره - حنَّ إليه حنين العشار وسمع له أنين - أيَّما أنين - حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم إليه وضمّه إلى صدره فسكت ؛ ثم أخبر صلى الله عليه أن ذلك بسبب فقدانه ما كان يسمع من ذكر الله ؛ والقصة صحيحة مشهورة في صحيح البخاري وغيره .
أيا شجر الخابور ما لك مُورقاً    ***   كأنك لم تجزع على ( ابن طريف )
فتى لا يعُدّ الزاد إلا من التقى      ***     ولا المال إلا من قناً وسيوف
حليف الندى ما عاش يرضى به الندى ***   فإن مات لا يرضى الندى بحليف
فقدناه فقدان الربيع وليتنا         ***       فديناه من فتياننا بألوف
ولكن هكذا هي الحياة لا بقاء فيها لغير خالقها (( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )) وهكذا هي طبيعتها تعقب بعد الفرح الترح وبعد الحبور وعمارة الدور سكنى القبور :
طُبعت على كَدَر وأنت تريدها *** صفواً من الأغيار والأكدار
ومُكلف الأيام ضد طباعها  *** متطلب في الماء جذوة نار
وقد رثاه الأديب الأريب والشاعر البحيري اللبيب ابن عمنا الأستاذ يحي ولد الطالب أحمد بقصيدة مطلعها :
ما في الهوى مبدي الأسى من مبدع   *** ما العدلُ في شرع الهوى أن تدَّعي
وأخيراً فإنني حاولت في هذه الورقة التي عرضتُ فيها لبعض الجوانب من حياة والدي " ابُّوه " – رحمه الله -  أن أكون موضوعياً - قدر المستطاع - وأن أبتعد عن المبالغة والتضخيم رغم جموح العاطفة بأقلام الكثيرين في هذا المضمار ؛ خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الأقارب والأرحام – بلهَ الآباء والأعمام - (( وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين )).
رحمه الله برحمته الواسعة وجعل قبره روضة من رياض الجنة
ولقاه ربي في الجنان تحية  *** ومن كسوة الفردوس ما لم يُمزقِ
وآخر دعوينا أن الحمد لله رب العالمين ؛ وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .


([1])      من الدوافع التي حملتني على إعداد هذه الورقة  عن الوالد " ابُّوه " – رحمه الله -  أني كنت - منذ مدة - أنوي أن أكتب عنه ورقة أترجم له فيها وأتعرض لبعض الجوانب من حياته ؛ خصوصاً وأن المكتوب عنه وعن رجال العلم في منطقته " الرقيبة وآفطوط "  لا يكاد يذكر  وقد ازدادت النية وتأكدت العزيمة - لإتمام هذا القصد - بما التمسه مني أخي الأصغر زكريا بن ابُّوه – حفظه الله -  بحجة أنه لم يدرك الوالد إدراكاً تاماًّ ولم يتسنَّ له الاطلاع على أخباره وسيرته ؛ حيث توفي الوالد وعمره لمَّا يتجاوز السنة التاسعة.  
([2])      من المعلوم أن طريق آل الشيخ أحمد أبي المعالي المذكورين هي فرع من الطريقة الصوفية الفادرية  الفرع الفاضلي ( نسبة إلى الشيخ محمد فاضل بن مامِّين القلقمي ) لأن الشيخ أحمد أبا المعالي هو أحد أشهر المتصدّرين على يد الشيخ سعدبوه  بن الشيخ محمد فاضل مؤسس الفرع الفاضلي المشار إليه

([4])      هذا ما كنت أحسبه وأظنه رغم أني لم أسمعه من الوالد في حياته مباشرة ؛ لكن يميل أخي الأكبر الأستاذ الفقيه سيد محمد بن مايابى إلى أن الوالد قد أدرك  الشيخ أحمد أبا المعالي في آخر زمنه وبايعه خلال إحدى الزيارات لحضرته وإن كان لم ينقطع للجلوس عنده آنذاك شأن َأغلب المريدين
([5])  البيتان من قصيدة لمحمدُّ النانه بن المعلَّى الحسني يمدح بها الشيخ أحمد أبا المعالي  مطلعها :
تحرّك ساكن وبدا خبي     *** من الأشواق وانقاد الأبي
([6])  البيتان من قصيدة لمحمد بن بيدر بن الإمام يمدح بها الشيخ محمد المصطفى بن الشيخ أحمد أبي المعالي مطلعها  :
    إلى (المصطفى) شيخ المشايخ من له    *** على رغم أنف العارفين استمرت
     تحيةُ مشغوف الفؤاد بحبه           ***      وفي النفس ما أخفت له وأسرت
([7])  كانت هذه " الطايفة " تضمّ – فضلاً عن الوالد ا بوه وعال ولد بي -  كلاًّ من حمود بن الطالب أحمد ومحمدّو بن الحاج (بب) بشكل منتظم وربما ضمّت غيرهم أحياناً ؛ رحمة الله على من مات منهم وأحسن المولى خواتيم من بقي.
([8])   جاءت هذه الرسالة استجابة للأوامر التي أصدرها الرئيس الموريتاني في تلك الفترة المقدم محمد خونة ولد هيداله والتي طلب فيها من كافة القضاة ومعظم مشايخ العلم في البلاد ؛ إصدار فتاوى شرعية بخصوص جواز تصرف ولي الأمر في مال الرعية جبراً؛ وذلك على إثر القرار الذي اتخذته الدولة بتحرير كافة العبيد والأرقاء حرصاً على المصلحة العامة ودرءً للمفسدة وخوفاً من الفتنة .
([9])  أما أنا وأخي الأكبر الأستاذ سيد محمد وأختي الكبرى مريم – حفظهما الله تعالى – فقد كُنا - يومها - في العاصمة نواكشوط ؛ حيث كنت أنا في السنة الأولى من الدراسة الجامعية ؛ في حين كانت أختنا الأخرى حاجة – خماها الله من كل مكروه – في لبحير ولا زلت أذكر – بل كيف أنسى – الطريقة النفسية الموفقة والأسلوب التربوي الحكيم الذي أوصل لنا به الخبر ابنُ عمنا الأستاذ الفاضل والباحث المثقف يسلم بن محمد محمود بن مايابى – حفظه الله ورعاه -  ؛ وذلك عندما اتصل بنا عصراً – بعد ما انتهوا من دفن الجنازة – وطلب منا الحضور بزعم أن الوالد في وضع يحتاج لحضورنا ؛ ولم يفصح لنا عن أكثر من ذلك ؛ ومن ساعتها بدأنا نتهيأ للسفر واستأجرنا سيارة هايلوكس قبيل المغرب وتوجهنا إلى كيفة ؛ قصارى خواطرنا أن الوالد محموم أو أنه بحالة صحية طارئة تستدعى نقله ؛ وما إن وصلنا كيفة الساعة الخامسة فجراً حتى تكشفت أمامنا المفاجأة الكبرى بأنه قد انتقل إلى رضوان الله ؛ وأن كل شيء قد انتهى ؛ وإذا معظم أهلنا في انتاكات -  من رجال ونساء حفظهم الله وجازاهم عنا خيرا – موجودون في منزلنا وإلى جوار والدتنا يواسونها ويشدون من أزرها:
فكان ما كان مما لست أذكره ***  فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر     

1 التعليقات:

غير معرف يقول...

رحمه الله السلف وبارك في الخلف ...
لقد تعرفت عليه في أواخر حياته فكنت أتمتع بلحظات أقضيها أحيانا إلى جانبه في بعض أيام العطل الأسبوعية ، وكنا نجد فيه العطف والحنان والتوجيه المسدد بالشرع والعقل . بل كنت أجده خير مثال على العالم الرباني الذي لم تنسه الوظيفة المرموقة ولا المكانة الاجتماعية السامقة واجباته تجاه مجتمعه وأمته.
رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصدقين والشهداء،و إنا لله وإنا إليه راجعون .

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : يحيى البيضاوي