إ أحقا .. يعيد التاريخ نفسه ؟ ~ يراع ـ البيضاوي

الأحد، 26 مايو 2013

أحقا .. يعيد التاريخ نفسه ؟

تمثال القائد المسلم : صلاح الدين الأيوبي ـ دمشق

في بداية القرن المنصرم ( القرن 20 ) كانت سورية على موعد مؤلم مع الغزو الفرنسي، وكانت دمشق تحديدا تتهيأ ليل بهيم  تختلط ظلماته بلون البارود ورائحة الدم ، دمّر فيه الاستعمار كل شيء؛  دمر فيه الحياة، والحضارة ، وقضى فيه على الطبيعة الغناء، ولوث السماء الصافية، وأهان البراءة والجمال في الأعين الشامية الأصيلة .


فما أشبه الليلة بالبارحة ... !!  كان في ذلك  الوقت أمير الشعراء أحمد شوقي حاضرا بِيرَاعه السيال وحِسّه المرهف فقال قصيدته الرائعة " سلامٌ من صبا بردى أرق " والتي عبّر فيها بأسلوب شعري مثير عن معاناة الغزوِ، وعَبثِ الموت في شوارع دمشق الجَميلة ، ولقد وفق أمير الشعراء إلى حدّ  كبير في تسجيل محنة الشام يومئذ ، وتسطير فداحة الخطب وعظمة الرزء وجلل المصاب :


لحاها اللَهُ أَنباءً تَوالَـــــــت        عَلـــى سَمعِ الوَلِيِّ بِـــما يَشُـقُّ
يُفَصِّلُها إِلى الدُنيا بَـــــريدٌ         وَيُجــــمِلُها إِلى الآفـــاقِ بَـرقُ
تَكادُ لِرَوعَةِ الأَحداثِ فيها         تُخالُ مِنَ الخُرافَةِ وَهيَ صِدقُ
وَقيلَ مَعالِمُ التاريخِ دُكَّـــت        وَقيـــــلَ أَصابَها تَلَفٌ وَحَـــرقُ
أَلَستِ دِمَشقُ لِلإِسلامِ ظِئراً       وَمُـــــرضِعَةُ الأُبُوَّةِ لا تُــــعَقُّ

وهي القصيدة الرائعة التي تلقيتها ضمن محفوظاتي المدرسية  في السنة السادسة الابتدائية بمدرسة  "لكران" تلك القرية الوادعة الجميلة التي أحببتها من أعماق قلبي وأحببت ساكنتها خصوصا: في حاسي البركه، والشطبة، واحْسي سيدي - حيث كان مسكني -  واطلالبيه، و الشانتيه ... ( والترتيب هنا حسب مدخل القرية ) ، كما أحببت جنانها الخضراء وعبق حنائها الفواح ، وشجرها الكثيف الوارف الظلال، وتربتها المتنوعة.
 إنها قرية هادئة تغفو في أحضان  سفوح هضاب العصابة حيث تحيط بها المرتفعات من جهات عدة ، وكأنها تهمس في أذنيها قائلة: " إنك لست في حضني فحسب بل أنت   في قلبي كذلك ..! "   كان ذلك  في السنة الدراسية 1980-1981 على يد معلمنا القدير محمد ولد عبد ربه ، الذي كان مصرا على أن يحفظ جميع الطلاب البالغ عددهم آنذاك حدود 60 طالبا تلك القصيدة عبر طريقته الجميلة في الحفظ السريع ( حصة واحدة ) حيث تقرأ القصيدة عدة مرات وفي كل مرة يُحذف بيت أو بيتان  ثم يُنتدَب من الطلاب من يذكر بقية الطلبة  بالأبيات التي تم حذفها... وهكذا إلى أن تم حفظ القصيدة كاملة مع محو آخر بيت منها على السبورة .
أذكر أنني اعترضت شخصيا على ذلك الأسلوب المتبع في الحفظ خصوصا مع هذه القصيدة الطويلة والمليئة بالمفردات الصعبة ، وهو اعتراض قد لا يعدو كونه محاولة مني للتغطية على عجزي وعدم قدرتي على مجاراة بعض الزملاء الذين انبروا في الحفظ فكانوا فرسانا في تلك الحصة ، وهم في حقيقة الأمر فرسان في غيرها  من الحصص ، وأذكر منهم على سبيل المثال : صديقي السملالي ولد الخُ سَلّمه الله  وكذلك زميلي وصديقي  بباتي ولد اعل  الذي ترك الدراسة مبكرا رغم ذكائه الحاد وسرعة بديهته المفرطة، ولا أتذكر أسماء بعض الكواعب الحسان اللواتي كان لهن حضور متميز في تلك الحصة .
وبما أن الليلة في عاصمة الشام شبيهة بالبارحة ، غير أن شوقي لم يكن حاضرا ، فأنا أورد للقراء تلك القصيدة الجميلة كاملة ، ولو كان صوتي نديا لسجلتها وحَبّرتها للقراء تحبيرا ، ولكنني لا أسعى للتنكيد عليهم ، وقد تجد من بينهم من هو أكثر أهلية لذلك .  يقول أحمد شوقي - رحمه الله-  في  رائعته تلك  ( بحر الوافر )  :



سلامٌ  من  صَبا   بَرَدَى   أَرَقُّ   ***   ودمعٌ  لا  يكفكف  يا   دِمشْقُ
ومعذرةُ     اليراعَةِ     والقَوافِي   ***   جلالُ  الرّزء  عَن  وَصْفٍ  يَدِقُّ
وذِكرى  عَن   خَواطرها   لِقَلْبِي   ***   إليكِ    تَلَفّتٌ     أبدًا     وخَفقُ
وبي  مما  رمتكِ   به   الليالي   ***   جراحات لها  في  القلب  عُمْقُ
دخلتكِ، والأصيلُ   له   ائتلاقٌ   ***   ووجهُك ضاحكُ القسماتِ  طَلقُ
وَتَحت  جنانِك   الأنهارُ   تجري   ***   وملءُ   رباك   أوْراق   وَوُرْقُ
وحَوْلي   فِتية    غُرٌّ    صِباحٌ   ***   لهم في الفضل  غاياتٌ  وسَبقُ
على   لَهواتِهم   شُعراءُ   لُسنٌ   ***   وفي  أعطافِهم  خُطَباءُ   شُدقُ
رواةُ  قَصائدي  فاعجَب  لِشعر   ***   بكُل    مَحلّةٍ    يَرويهِ    خَلقُ
غمزت   إباءَهم   حتّى   تَلظَّت   ***   أنُوفُ  الأسدِ  واضْطرَمَ   الْمَدقُّ
وضجّ  مِن  الشَّكيمةِ  كُلُّ  حُرٍّ   ***   أبِي   مِن   أميةَ   فِيه   عِتقُ
لحاها    الله    أنباءً     تَوالت   ***   على  سمعِ  الولي  بما  يشقُ
يُفصّلها    إلى    الدنيا    بَريد   ***   ويُجملها   إلى   الآفاق   برقُ
تكادُ   لروعَةِ   الأحْداثِ   فِيها   ***   تُخال من  الخرافة  وهي  صِدقُ
وقيلَ   معالم   التاريخ    دكت   ***   وقيل   أصابها   تلف    وحرق
ألست  دمشق   للإسلام   ظئرا   ***   ومرضعة    الأبوة    لا    تُعَقُّ
صلاحُ  الدّين  تاجُك  لم  يُجمَّل   ***   ولم  يُوسَم  بأزْينَ  منه   فرقُ
وكل حضارة في  الأرض  طاَلتْ   ***   لَها من  سِرحك  العلوي  عِرقُ
سماؤكِ مِن حُلَى الماضي كِتابٌ   ***   وأرضُك مِن حُلى  التاريخِ  رَقُّ
بَنَيتِ   الدّولة   الكُبرى   ومُلكاً   ***   غُبارُ   حَضَارَتَيهِ    لا    يُشَقُّ
له   بالشام   أعلام    وعُرس   ***   بشائرهُ       بأندلسٍ       تُدقُّ
رباعُ  الخلدِ  ويْحكِ  مَا  دَهاها   ***   أحَقُّ    أنّها    دُرست     أحقُّ
وهل  غرف  الْجنان   مُنَضدات   ***   وهل  لِنعيمِهنّ   كأمس   نَسقُ
وأينَ دُمَى المقاصِر من  حِجال   ***   مهتّكةٍ      وأسْتارٍ       تُشق
برزن  وفي  نواحِي  الأيكِ  نَار   ***   وخَلْفَ   الأيكِ    أفْراخٌ    تزق
إذا  رُمْنَ  السّلامة  من  طريق   ***   أتت  من  دونه  للموت   طرق
بليل      للقذائف       والمنايا   ***   وراء  سمائه   خطف   وصعق
إذا  عصف  الحديد  احمر  أفق   ***   على   جنباته    واسود    أفق
سلي من راع غيدك  بعد  وهن   ***   أبين   فؤاده   والصخر    فرق
وللمستعمرين    وإن     ألانوا   ***   قلوب    كالحجارة    لا    ترق
رماك  بطيشه   ورمى   فرنسا   ***   أخو  حرب  به  صلف   وحمق
إذا ما    جاءه    طلاب    حق   ***   يقول  عصابة  خرجوا   وشقوا
دم    الثوار    تعرفه    فرنسا   ***   وتعلم     أنه     نور     وحق
جرى  في  أرضها   فيه   حياة   ***   كمنهل  السماء   وفيه   رزق
بلاد    مات    فتيتها     لتحيا   ***   وزالوا   دون   قومهم    ليبقوا
وحررت  الشعوب  على   قناها   ***   فكيف   على   قناها   تسترق
بني  سورية  اطرحوا   الأماني   ***   وألقوا   عنكم   الأحلام    ألقوا
فمن خدع  السياسة  أن  تغروا   ***   بألقاب   الإمارة    وهي    رق
وكم  صيد  بدا  لك  من   ذليل   ***   كما مالت من المصلوب  عنق
فتوق الملك تحدث  ثم  تمضي   ***   ولا   يمضي   لمختلفين   فتق
نصحت  ونحن  مختلفون   دارا   ***   ولكن  كلنا  في   الهم   شرق
ويجمعنا   إذا   اختلفت    بلاد   ***   بيان   غير   مختلف    ونطق
وقفتم  بين   موت   أو   حياة   ***   فإن رمتم  نعيم  الدهر  فاشقوا
وللأوطان  في   دم   كل   حر   ***   يدٌ   سَلفت    ودَين    مُستَحقُّ
ومن  يسقى  ويشرب   بالمنايا   ***   إذا  الأحرار  لم  يسقوا  ويسقوا
ولا  يبني  الممالك   كالضحايا   ***   ولا  يدني  الحقوق   ولا   يحق
ففي   القتلى    لأجيال    حياة   ***   وفي الأسرى  فدى  لهم  وعتق
وللحرية      الحمراء      باب   ***   بكل    يد     مضرجة     يدق
جزاكم ذُو  الجلالِ  بَنِي  دِمشقٍ   ***   وعزُّ   الشرقِ   أوّلُه   دِمَشقُ
نَصرتُم   يوم   محنتِه    أخَاكم   ***   وكلُّ  أخٍ   بِنَصرِ   أخِيه   حَقُّ
ومَا  كان  الدّروزُ   قبيلَ   شَرٍّ   ***   وَإن  أُخِذوا  بِما   لَم   يَستحقُّوا
ولكن    ذَادَةٌ    وقُراةُ    ضَيْفٍ   ***   كينبوع  الصّفَا   خَشِنُوا   وَرَقُّوا
لهم  جَبل   أشَمُّ   له   شعَافٌ   ***     مَوارد في السّحَابِ الْـجُون  بُلقُ
لكل    لبوءة    ولكل     شبل   ***   نِضالٌ   دونَ   غَايَتِه   وَرَشقُ  
كأنَّ  مِن  السَّمَوأل  فِيه  شَيئاً    ***      فَكُــــلُّ جِهاتِهِ شَرَفٌ وَخَلقُ

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : يحيى البيضاوي