إ عادة الاختلاط في مجتمعات البيظان وآثارها الاجتماعية ~ يراع ـ البيضاوي

الجمعة، 20 يونيو 2014

عادة الاختلاط في مجتمعات البيظان وآثارها الاجتماعية


لكثيرا ما تحدثت العلوم الإنسانية ، على اختلاف اهتماماتها ، عن المجتمعات بوصفها كائنا حيا يَمرَض و يصِح و يَعيش و يموت ،وفي ذلك تشبيه لها بالكائن البشري الذي يتأثر بالأمراض والأسقام ويخضع لعملية التأثر والتأثير المتبادل مع محيطه ، حتى إن علم النفس أفرد تخصصا لدراسة نفسية المجتمعات تحت عنوان "علم النفس الاجتماعي". 

وإذا كان هذا الطرح يستهدف ضمنيا التأكيد على وجود مستويات من الوجود الاجتماعي لها تأثيرها الخاص دون أن تكون ملحوظة بقدر ما تُلحظ  المستوياتُ الأخرى فإنه ليؤكد – أيضا - التعقيد البالغ الذي تتميز به تلك المستويات كما هو حاصل في النفس البشرية ، ومن هنا يمكن القول إن المجتمعات البشرية تخضع لعوالم من التأثير الخفي ستظل بحاجة إلى مزيد من البحث والتنقيب لمعرفة حقيقة ذلك الوجود والوقوف على مدى قدرته على  التأثر والتأثير.  وسوف نقتصر اليوم على جزئية محددة من تلك العوالم تتمثّل في عادة الاختلاط بين الجنسين السائدة في المتجمعات البيظانية ( الموريتانية ) بغية التعرف على طبيعتها ومدى تأثيرها الإيجابي أو السلبي على صحة الفرد وتماسك المجتمع . وسوف نتساءل أولا : ما ذا نقصد بالعادة ؟ وما الفرق بينها و بين التقاليد و الأعراف ؟ ثم ماذا نعني بالاختلاط بني الجنسين في المجتمعات البيظانية ؟ و ما هو الدور الذي تمثله تلك العادة  في صيانة المجتمع وتماسك نسيجه أو العكس ؟  وهل استطاع المجتمع البيظاني أن يضع للاختلاط ضوابط  ينضبط بها وحدودا يقف عندها  التزاما بمبدأ أخف الضررين ؟ .
العادة في اللغة مأخوذة من الْعَوْدِ أو الْمُعَاوَدَةِ ، بمعنى التكرار والدأب والاستمرار .  وهي كل ما تعوده الناس من أمور لها علاقة بحياتهم الاجتماعية.  والعادة لدى علماء الاجتماع نمط  من السلوك يخص جماعةً بعينها يتم انتقاله شفهيا بين الأجيال من غير أن يخضع للتفكير . أما الفقهاء فيعرفون العادة باعتبارها: الأمور المتكررة من غير علاقة عقلية . والمقصود بالتكرار عندهم عدم اعتبار عامل الصدفة، أما نفيهم للعلاقة العقلية فالمراد به عدمُ تعليلها في الغالب ، ويعتقد علماء النفس أن العادة تتكون من عناصر ثلاثة : المعرفة، والرغبة، والمهارة .  فكل سلوك يقوم به الشخص وكان على معرفة بطريقة أدائه وتتوفر لديه الدوافع الكافية للقيام به ويمتلك المهارة    اللازمة لتنفيذه على الوجه المطلوب فإن ذلك السلوكَ قد أصبحَ عادةً . لهذا يمكن القول إن العادات تنقسم إلى عادات فردية وعادات جمعية ؛ فالأولى عبارة عن أنماط من السلوك يتصرف الفرد بمقتضاها على نحو خاص حتى تصبح ممارسته لها لا شعورية ، ولكن ليس في الخروج عليها ما يَنقِمه المجتمع . أما العادات الجمعية فهي قواعد سلوكية تتميز بطابع التكرار لا دَخْلَ للفرد في وجودها ، وقد يتعرض لنقمة المجتمع إن خالفها ، وهي تنتشر أفقيا عن طريق التجاور والاختلاط وعموديا عبر  التاريخ حيث تنتقل بين الأجيال : ومن الأمثلة على ذلك عادات التحية، وتناول الطعام، وطقوس الزواج  ..
ويقترب مصطلح العادة من مصطلحي التقليد والْعُرف ، والحال أن بينهما بعض العموم والخصوص ، فالتقليد سلوك مستقل في وجوده عن الفرد ويفرض نفسه عليه وهو أقوى في الإلزام من العادة لما يتمتع به من هيبة وشعور بالرضا والطمأنينة باعتباره خلاصة تجارب جاهزة ، وله دوره الخاص في حفظ لحمة المجتمع وربط حاضره بماضيه. أما العُرف فهو: "كُل فعلٍ يُعْرفُ بالشرعِ والعقلِ حُسْنُه " ، وهو ضِدُّ المنكر ويخص النواحي الإيجابية من العادة ، ومن هنا فإن كل عرف عادةٌ وليست كلُّ عادة عرفا .
لكن ما ذا نقصد بعادة الاختلاط في مجتمعات البيظان ؟  وهل هي سلبية كلها أم لها بعض الدلالات الإيجابية ؟  .
نقصد بالاختلاط حضور مجموعة من الرجال والنساء من المحارم أو "غير المحارم"  في البيوت أو أماكن الدراسة أو العمل دون فواصل أو عوازل ، مع احتفاظ كل طرف بخصوصيته في الستر واحترام الآداب العامة، وهو لا يعني بأي حال من الأحوال التبرج أو التبذل أو إزالة العوائق المحرمية كما يحددها الشرع ، كما أنه لا يعني إطلاقا الخلوة بمواصفاتها الشرعية .
 وظاهرةُ الاختلاط بين الجنسين ، بهذه المواصفات ، عادةٌ شائعةٌ في مجتمعات البيظان منذ القدم. ولكثيرا ما تنعت هذه الظاهرة في بعض تجلياتها بأوصاف سلبية باعتبارها خروجا عن النمط الصحي للعلاقة بين الجنسين في المجتمعات المسلمة كما يرسمها الدين . ومع ذلك فلقد رافقت هذهِ الظاهرةُ المجتمعاتِ البيظانيةَ عبر أطوارها التاريخية، وكان قد عايشها العلماءُ والفقهاءُ ، وإذا كان بعض الفقهاء قد استشكلها  شفهيا فإن الغالبية تعايشت معها ، ولو كان هذا التعايش قد تم على مضض لكانت أقلام الفقهاء قد عبرت عن ذلك ، لكننا لم نجد من تَناولَ هذه الظاهرة من الفقهاء ليسطّر  وجهة نظره في حقها ، وهذا وحده يكفي لنقول إن الفقهاء - على الأقل -  لم تؤرقهم هذه الظاهرة، أو أنها لم تكن ضمن هُمومهم الكبرى أثناء التأليف أو البحث .
نعم إن الاختلاط بالقدر الموجود به في مجتمعاتنا لا مفر من اعتباره ممارسةً للحريات الشخصية مبالغا فيها وهو فرصة في بعض الأحايين للتجاوز وهتك المحرمات ، ولا بد أن نقرّ بادئ ذي بدء أن المصلحة في الالتزام بالشرع وضوابطه، ولكننا هنا نريد أن نفرق بين ما هو واقع وما ينبغي أن يكون عليه ذلك الواقع ، وقراءتنا للواقع لا تعني تشريعه وإن أظهرت تلك القراءة أحيانا بعض الإيجابيات لكنها لا تنفي سلبيات تلابسها في أحايين أُخَر ، كما أن وجود السّلْبي في الشيء ولو كَثُر لا يمنع ذكر الإيجابي فيه ولو قَلّ ،  فالله سبحانه وتعالى يقول عن الخمر والمسير: ﴿ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾، ولا شك أن  ظاهرة الاختلاط في مجتمعاتنا  لا تخلو من سلبيات تذكر ولعل من أبرزها  انتشار مستويات متعددة من العلاقات المحرمة، و كثرة الطلاق داخل مجتمعاتنا  وما يترتب على ذلك من تفكك أسري وضياع للأصول والفروع . بيد أن المتتبع لظاهرة الاختلاط الاجتماعي في بيئات البيظان يجد أنها لم تكن بتلك السلبية المطلقة التي يريد البعض أن يَصِفَها بها في أيامنا هذه ، والغالب على الظن أن  تلك الظاهرة كانت من خصوصية تلك المجتمعات قبل ظهور الممارسة الدينية لديهم ، وربما كان ذلك أحدَ العوامل التي جعلتها بردا وسلاما على تلك المجتمعات. ترى أين نتلمس تلك الإيجابيات رغم الضباب الكثيف الذي يريد البعضُ أن يُضفيَه على ذلك الواقع ؟ إن ظاهرة الاختلاط أوجدت بيئة خالية من العقد النفسية تتسم بالأريحية والبساطة الكاملة، حيث يتم اللقاء في أجواء تساهم في التعارف واكتشاف الآخر وإدارة العلاقة بين الجنسين بما يوافق الحالة التي تم بها اللقاء؛ فلقاء شباب مع نساء عجائز يختلفُ عن لقاءٍ شبابِيٍ بين الجنسين؛ فإذا كان هذا الأخير يشكل مدرسة حية يتم فيها تهذيبُ العواطف ونزعُ الشحنات السالبة وتنميةُ الذائقة الاجتماعية والروحِ الجمالية ؛ فإن اللقاء الأول تسوده الرهبة و يسوسه الاحترام ويحضر فيه بقوة عاملُ التعلم و نقل الخبرة والتجربة في أمور الحياة ، وهنا نسجل حرص المجتمع البيظاني على احترام المرأة خصوصا إذا تقدم بها العمر حيث نجد في المثل : "معرفة التراب راحة ومعرفة العزوز افضاحة" ، وهي عبارة تكتنز معانِيَ كثيرةً خلاصتها أن معرفة العجوز لا بد أن تكون على حساب الرجل وتتأكد تلك المسؤولية لو كان الرجل في طور الشباب من قبيل خدمتها والرفق بها وتقديم حاجاتها وإلا تعرض لِلَيّ شفاه أفراد المجتمع والنيل من قَدْرِهِ والانتقاصِ من شهامته .
إن هذا الاختلاط بحالتيه مدرسة يشرف المجتمع على تسييرها عبر دروب آمنةٍ - في الغالب -  لا تخاف دركا ولا تخشى ، ومن نتائجه اختيار الشريك المناسب لأحد الطرفين الذي اخْتُبِرت انفعالاتُه واستُثيرَت عواطفُه ونُقِدتْ سبيكَتُه . بالإضافة إلى الأدوار التي تقوم بها تلك البيئة في تهذيب السلوك الاجتماعي عبر ما تَعُجُّ به من تنوع انفعالي كالغضب والمرح  والنقد والتقويم والتوجيه ؛ فالمرء من كلا الجنسين يَتعوّد على التعامل مع تلك الأمور و امتصاص أثرها وردة الفعل الموزونة تجاهها .
ولعل قيادةَ المرأة لعش الزوجية ، والثقة في مستوى عطائها ، نتيجةٌ أخرى  من نتائج  هذا اللقاء ؛ فالمجتمع  كثيرا ما كان يُخضع المرأة  لامتحانات صعبة عبر كثير من المواقف ، وبما أنها تتجاوزها بتقدير طيب ، فقد كانت الصورة السائدة للمرأة في المجتمع البيظاني أنها كائن صبور، يمتاز بالفطنة والذكاء ، وأنها قادرة على تحمل صعاب الحياة ، وخبيرة بتعديل السلوك لذلك لم يكن ثمة ضيرا في أن تُسلم زمامَ البيت بعد أن أثبتت الأيام خبرتها  في إدارة أفراده  .
ومع هذا كله لم يدع المجتمع البيظاني الحبل على الغارب لهذا الاختلاط دون أي حدود، فلقد جاء  بالضوابط الشرعية المتمثلة في الستر وصيانة الأعراض ،  وركز على الوازع الإيماني والأخلاقي للفرد من خلال التربية الدينة والاجتماعية ، وعمل على ضبط هذا الاختلاط بإشاعة المروءة ونشر العفة وهي أمور ينشأ عليها الصغار من كلا الجنسين ويعيشونها في حياتهم اليومية جنبا إلى جنب: 
                    ويَنشأُ ناشئ الفتيانِ، مِنّا ** على ما كانَ عَوّدَهُ أبُوه
حينها ليس غريبا أن يشيع الحب العذري في تلك الربوع بوازع من التقوى والفضيلة لا ببريق  السيوف أو صولة العصي ، و لك أن تستحضر ذلك من خلال بيت شعري لأحد شعراء تلك الأحياء يقول فيه :
         ليالِيَ خُود الحي يُغرينَ بالهوى  **  يواصلْنَنَا هَمسا ويبخلنَ باللمسِ
والخلاصة التي نود أن نصل إليها هنا هي أنه بضدها تعرف الأشياء، فلولا المرارة لما عرفنا الطعم الحلو، ولولا الظلام لما عرفنا النور، كما أن قيمة هذه البيئة المنفتحة السمحة لا تقدر حقّ قدرها إلا بعد أن نشاهد البيئات الأخرى وما تعيشه من جِدّيَةٍ مُفتعلة، تَتَساقط فيها الرقاب بمجرد غياب الرقيب.                         

6 التعليقات:

غير معرف يقول...

قد حاول الكابت جاهدا أن يقدم ما اعتبره نتائج للاختلاط لكن ما تم تقديمه على أساس انه نتائج فقد كن يمكن أن يحصل بوسائل غير الاختلاط فاختيار الشريك مثلا يحصل بأسلوب غير الأسلوب المتاح به في البيئات المختلطة و لعلك صدقت عندما ذكرت بعض المصائب التي تتولد عن الاختلاط مثل الطلاق والضياع الأسر وتفشي المحرمات الشرعية وهي لعمري أكبر المصائب أما كون بعض مظاهر الصرامة التي تحدث عنها في بعض المجتمعات مفتعلة وأن له نتائج وخيمة في غياب الرقيب هذا واقع ليس من العلمية تعميمه فهو إن حصل لبعض المجتمعات ليس بالضرورة أن يحصل في كل المجتعات كما أن ثمة رقاب تسقط في أحضان الرذيلة والعنف في بيئات منحرفة لم تعرف سبيلاإلى الالتزام قط وعلى كل حال أشكرك من خالص قلبي على أثارة الموضوع وإن اختلفت معك في المضمون فانا متفق معك في منهجية المعالجة وجمالية اللغة فالله يحفظكم ويرعاكم

روان يقول...

بارع في هذا الامر يوشيك

غير معرف يقول...

naam adt lakhtilat hathi adah mavhachi wa gamilah o manaarvou yakoun hia

احمد ولد ارجيل يقول...

لم تترك لقائل قول و لا لجلاد سوط ، نكرت و عرفت و لمحت و صرحت فلم تترك لناقد و لا مزك إلا (( التقماس أفبل اليدمة )) . و كما قالت روان (( بارع في هذا الامر يويشك )) كراي بحق و مرب بلا منازع لا عدمناك

غير معرف يقول...

احمد اتقي الله انت تشرع مع البيضاوي للاختلاط والسفور اعاذنا الله و المسلمين مما تتخبطون فيه لقد أظلم أمركما فكفوا بأسكما عن الناس

احمد ولد ارجيل يقول...

هههههههههههههههههه لا لم أتطرق إلى الشرعنة أو التبرير و لم أر في قول يحيى شرعنة أو تبريرا لكنه وصف بدقة واقعا أعرفه أنا و أعتقد أن كل موريتاني تربى في موريتانيا يعرفه بغض النظر عن مجه له أو إستمرائه و تحدث عن أن الاختلاط درجات و ضرره درجات . نحن مجتمع مختلط لكن عقدة الكمال تأبى علينا ان نعترف بذلك . و أسأل الله أن يكف بأسي ـ إن كان لي بأس ـ عن المسلمين و أن يعيدنا اليه كلما شطت بي الدروب أو همت بي الضلالات .

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : يحيى البيضاوي