إ الإيمان والعقلانية : نحو فلسفة إيمانية معاصرة ~ يراع ـ البيضاوي

الاثنين، 16 يونيو 2014

الإيمان والعقلانية : نحو فلسفة إيمانية معاصرة

قد لا أبالغ كثيرا إذا قلت إن أهم ما يميز عصرَنا الحالي هو كثرة التأويل والتفسير وإعادة النظر المتكرر في المواقف والقناعات التي كان الأسلاف يعتبرونها من المسلمات الثابتة، ابتداء بالمقدس من الدين والراسخ من العلوم والمعارف، وانتهاء بالنظرة الفلسفية للكون ومعطياته؛ حيث تغيرت نظرة الإنسان إلى كل شيء من حوله، كما تغيرت نظرته تجاه ذاته ليتحول من مجرد رقم ضمن سلسلة الموجودات في هذا الكون إلى مركز تدور من حوله عجلة الكون كله ، بل لقد أصبح الإنسانُ صاحبَ الكلمة في كثير من معطيات الوجود من حوله .
 وقد تبدو المعطيات الدينية أكثر ثباتا أمام رياح التغيير العاتية ، لكن الحقيقة تقول إن حركة الواقع تستدعي حركية في المسلمات والمفاهيم الدينية أيضا لملاحقة تلك الصيرورة  التي لا حدود لها ، ومن هنا يمكن القول إن سِرّ بقاء أو اندثار بعض الديانات والأفكار الاجتماعية أو السياسية والاقتصادية  يتعلق - في معظم الأحوال - بقدرتها على إعادة تأويل مبادئها وفلسفاتها لتلبية مستجدات العصر  وإلاّ تفعل يتم تجاوزها "فمن نام لم تنتظره الحياة ..!" .
وفي خضم المتغيرات هذه نجد أن  الدين الإسلامي كان أكثرَ الأديان مراعاةً لمستجدات العصر  بل لقد ظل الإسلام عاملا من عوامل  التغيير يرفض التقليد و يدعو للتحرر من أغلال  الماضي أياًّ كانت طبيعتها ، وهذا يعني ببساطة أن الحقيقةَ الدينيةَ حقيقةٌ  واقعية تظهر في الحدود التي تلبي بها حاجاتِ معتنقيها، وتبدأ تنمو مع نمو معارفهم وقدراتهم .   
ولو تأملنا السّمات التي تطبع العصر الحديث فسنجد أن العقلانية على رأسها ، فهي حاضرة في كل شيء ؛ في العلوم والمعارف ، في السياسات و النظم الاجتماعية...  ولا ينافي ذلك إطلاقا كونُهُ أيضاً عَصْرَ الثورات العلمية ، ذلك أن المنهج العلمي - في حقيقة أمره - ليس إلا  تَشْييئا للمنهج العقلاني وسحبا له من الانشغال بالماهيات والمقاييس النظرية إلى أرض الواقع حيث تكون المواضيعُ محسوسةً وملموسةً و قابلةً للمشاهدة أو القياس  ، فالعقلانية منهج  قبل أن تكون فلسفة، والعلمية أسلوب من أساليب هذا المنهج ، ومهما حاول المنهج التجريبي التظاهرَ بأنه غَيْرُ مَعني بالعقلانية باعتبارها منهجا له دلالة فلسفية  فإن هذه الأخيرة ستظل جزءا من رؤيته وامتدادا لفلسفته حاضرةً في خطواته؛ انظر مثلا إلى الفرضية التي هي منطلق المنهج التجريبي إنها لا توضع على المحك، بل لا تستحق أن تفرض أصلا  إذا لم تكن منطقية أي ما لم تكن عقلانية .
بيد أن الملاحظ في عصرنا الحالي  أن العقلانية  كمصطلح يستدعي منهجا محددا في التفكير أصبحت أكثر حضورا في الخطاب الأدبي والثقافي عموما ، وكأنها في هذه المجالات تقوم بدورٍ مُقابلٍ لمصطلح " العلمية "  الذي يختص بالموضوعات المدرجة في المختبرات وملحقاتها . علما أن العقلانية  كان لها حضور مبكر في الحقل الديني ، وخاصة الإسلامي ؛ حيث حاولت أن  تتفهم مقاصده وتُفسّر دلالاته. ولقد آتت تلك المقاربة _آنذاك _ نتائجَ تُذكرُ فتشكر خصوصا مع المتكلمين وعلماء الأصول والفقهاء؛ حيث أثمرت معارفَ الأصول وقواعدَ الفقه وصَمّمت طرقَ الاجتهادِ وأساليبَه ومبادئَه العامةَ، وبغياب تلك المقاربة ، في العصور اللاحقة ،كانت إنجازات معارف ذلك الحقل تتراجع وتنخفض مستوياتها إلى أن تَوقفتْ فَعمَّ الاجترارُ وساد التكرار وغاب الإبداع وبَدأ عالمنا الإسلامي يترنّح في دوامة من التخلف لم تزل ، حتى يومنا هذا ، هي السمة البارزة في واقعه . وبدخول العلوم الإنسانية على الخط  مجددا – في عصرنا الحديث – باتت العقلانية  تُطاوِلُ كلَّ شيء، وبات كل شيء يَدّعي قسطا من العقلانية يجعله أكثر تماسكا وانسجاما أمام من يريد تجريدَه مِنها لحاجة في نفس يعقوب ، وباتت المعطيات الدينية مهددة أكثر باعتبارها مَرْحلةً مُتَجَاوَزَةً وغَيرَ معقولة ، وتلكَ مواقفُ تستدعي أنماطا متعددة من رَدَّات الفعل أكثرها هدوءاً ذلك الذي يتملّص من الموضوع جملة وتفصيلا بِحُجّة أنّ الدينَ مطلقٌ فكيف نحاكمُ المطلقَ بما هو محدود وغير مطلق ؟ و الحقيقة التي ننطلق منها هنا : أن الدينَ عقلاني ،حتى  المفاهيم الدينية ، التي تبدو أكثر إيغالا في العواطف وعالم الروح كالإيمان،  فهي تتكئ على أسس عقلية لا يستطيع المنطق السليم دفعها ، وقد تُطرح تساؤلاتٌ  تَجعل من هذا القولِ مجردَ ادّعاءٍ  يُخفي وراءه إخفاقا للدين والتدين في أيامنا هذه  ويسعى لجلب تأكيدٍ منطقي وعقلاني لمقولاته وقضاياه بعد أن نالت منه الهجماتُ الإلحاديةُ التي تدَّعي التسلح بالعلمية والعقلانية أيضا ، كما قد يتساءل البعض قائلا : لماذا نحشر الإيمان تحديدا هنا في هذا المجال وهو مسألة روحانية عاطفية بالدرجة الأولى ؟ وهي تساؤلات لن تغيب عن البال أثناء هذا العرض.
بيد أنني أودّ التأكيد ، بادئ ذي بدء ، على أنني سأنطلق في هذه المعالجة من منهجية مغايرة لمنهجيتنا التقليدية ، وسأحاول أن أتسلح بسلاح المنهج العقلاني البحت، فلا تثريب إذاً إن بدت هذه المعالجةُ فارغةً من أيّ وجهات نظر لنصوصنا العقدية التقليدية إلا ما جاء منا استطرادا للاستئناس والمؤازرة  لا أقل ولا أكثر .
إن علاقة الدين بالعقلانية تبدو مصممةً على غرار علاقة العلم بها أيضا فالعلم لا ينفي عقلنة مواضيعه لكنه يقول إنه غير معني بشيء خارج منهجه ، وهو موقف يستهدف ضمنيا التملص من هيمنة المنهج الفلسفي الذي ظل العلمُ جزءاً من أنشطته حتى عصر النهضة الأوربية الحديثة حيث انفصلت العلوم بمناهجها التجريبية ومواضيعها المرتبطة بعالم الحس والمشاهدة بعيدا عن الفلسفة، وهو ما ترتبت عليه الطفرة العلمية التي شهدها العالم في العصر الحديث ، ولو تأملنا أسلوب الدين في طرحه لقضاياه لأدركنا أنه يقف من العقلانية نفس الموقف فهو لا يرضى بأن يوصف بعدم المعقولية لكنه في نفس الوقت لا يَقبلُ  بالحضور المباشر للعقلانية  أثناء معالجته لقضاياه ، خصوصا الغيبية منها ، ليس باعتباره غير معني - أثناء التعاطي مع هذه القضايا -  بشيء خارج منهجه الإيماني كما يقول العلم عن منهجه مثلا ، بل لأن قضايا الدين كلَّها (على الأقل من وجهة نظر الدين نفسه) إما معقولة وإما فوق العقل ولكنها لا تخالفه باعتبار أن العقلَ مجردُ طاقة بشرية لها حدود ها ، كسائر طاقات البدن الأخرى ، وحينئذ يمكن القول إن  ما فات على العقل من قضيا الدين ليس لأنها غير عقلانية بل لأن العقل قد لا يمتلك القدرة لتعَقُّلِها , ومن هنا كان المنهج الإيماني حاضرا لاستكمال المشوار، ليس من منطلق الفراغ اللاعقلاني بل من الأسس والحيثيات التي يعيها العقل للوصول إلى الأجزاء المتعالية حتى عبر التسليم و الاعتراف بالعجز أحيانا، فالعجز عن الإدراك هنا هو إدراك من نوع آخر !! . إن هذا الموقف يعبر عنه الفيلسوف الهولندي اسبينوزا ( ت 1677م )  بأسلوب آخر غير بعيد عنه تماما فهو يعتقد أن الفلسفة إذا كانت تَتَغَيَّى الحق فإن الإيمان هو خضوع لهذا الحق  من خلال ما يبديه من  طاعة وتقوى . فكيف نستسيغ هذا الطرح ؟
 تقول لنا المعاجم إن الإيمان مصدر مشتق من الفعل آمن أي  صدّق، ولقد عرّفه الزجاج بقوله: الإيمان إظهار الخضوع والقبول للشريعة . بيد أن التصديق  في حقيقة الأمر مبني على معطيات ضمنية في نفس المصدق لولها لانتفى التصديق ، منها الألفة ( التكرار )  والإمكانية ( معقولية الحدث أو الرسالة ) والثقة في المصدر بالإضافة إلى معطيات أخرى تتعلق بالْمُستقبِل نفسه ، فلابد لهذه العناصر الثلاثة من الحضور حال استقبال الرسائل لحصول الإيمان بمعطياتها ، وإذا غاب واحد من هذه العناصر تسرّب الشك ليحل محله، صحيح أن التصديق لا يكون في الظاهر مترتبا على حجج وبراهين  بل إذا اصطحب الحجج والبراهين تحول إلى مادة عقلية يصعب استيعابها على العامة والتي هي الأغلبية المستهدفة بالدين على حدّ  تعبير اسبينوزا ، ولا يعني اسبينوزا هنا أن الخاصةَ غيرُ معنيين بالخطاب الديني بل يقصد  أنهم أقرب للحقيقة بمقتضى أهليتهم المعرفية وهو أمر لا يتوفر للغالبية الساحقة من عوام المتدينين ولهذا كان الدين يركز على تلبية حاجات هذه الفئات التي تأخذ النصيب الأوفر من كل المجتمعات البشرية ، وإذا  كان علماء الكلام عندنا  قد اشترطوا في صحة المعتقد أن يبنى على النظر ،فإن هذا  الموقف لم تؤكده الممارسة الدينية عبر التاريخ إذ لم يذكر التاريخ أن الأعراب كانوا يحتاجون إلى دورات في التفكير المنطقي والجدل الفلسفي أثناء تفيئهم لظلال الإسلام  الوارفة ، بل إن الدلالة اللغوية لمصطلح "الإسلام" نفسه لا تؤكد ذلك الاتجاه إطلاقا ؛ باعتبار أن الإسلام مصدر  مشتق من الفعل "أسلم" الذي يعني الخضوع والطاعة والانقياد التام. وهكذا كان منطق الدين يختصر الطريق لكنه يحتفظ ضمنيا بدلالات عقلانية لا يستطيع العقل ردّها ، يتسلح بها للوصول إلى غاياته المتمثلة في التصديق أو الإيمان ، ومن تلك الدلالات الضمنية ما يلي :
-    أن الدين مسألة معتادة لدى البشرية ،كاعتياد الناس للشرب والأكل ، يقول أحد المؤرخين القدماء: "لقد وُجدتْ في التاريخ مدنٌ بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد" .
-    أن الخطاب الديني باعتباره رسائل إصلاحية تستهدف استعادة صوابية الاجتماع البشري وتجديد الوازع الأخلاقي وترشيد الجهد البشري  يأتي بها رسول مرسل أو نبي منبأ مسألة بالإضافة إلى تكرارها معقولة وذات نفع لا ينكر عبر تاريخ البشرية ، فحيثما كانت المصلحة فثم الشرع .
-    أن الدين يتم تقديمه عبر وسائط بشرية ( الرسل ) لها مكانتها الاجتماعية الكبيرة وكان حظها وافرا من الاستقامة والصدق والفاعلية .
-    أن الدين فيه جانب غيبي قابل للتعقل لكنه مكلف ومضن ، ومن ثم كان الإيمان بديلا يستحضر ضمنيا تلك المعاناة لتأسيس متطلبات الخطاب الديني لدى الفرد والمجتمع ، ولتتفرغ القدرات البشرية لتتمكّن من تركيز فاعليتها في عالم الشهادة . والإيمان الذي نتحدث عنه هنا هو الإيمان بعالم الغيب ( الإيمان بالله ) .
 ولكن إذا كان الدين لم يسع إلى جعل عقائده قائمة على فلسفة فهل يعني هذا أن الخطاب الديني خارج عن دائرة المنطق وفارغ من أي مضمون عقلاني ؟ إن الغالبية المتخصصة في مجال العلوم الإنسانية تبدو وكأنها لا تقيم وزنا لمقولات الدين باعتبارها مُتجاوَزة وهي متأثرة في ذلك الموقف بما توصل إليه بعضُ رواد النهضة الأوروبية الحديثة خصوصا أوجست كونت ( ت 1857 ) من مقارنات محلية ( المسيحية )  أراد لها التعميم ؛ حيث اعتبر أن الدينَ مرحلةٌ مرت بها البشرية في رحلتها نحو المرحلة الوضعية،  ولقد سار في هذا الاتجاه علماء آخرون منهم فرويد ( ت 1939 )  الذي كان يرى أن الدينَ وَهْمٌ ، وأنّ المتدينين مصابون بالعصاب الجماعي ، وتوقع أن يتم العزوف عن الدين عبر سيرورة النمو المحتومة على حَدّ تعبيره ، بيد أن هذه المواقف كلها تختزل الدين بأسلوب مُخلًّ  تحكمه تصورات مسبقة لا علاقة لها بالمنهج العلمي، فالدين أكبر من أن يقرأ من خلال نماذج محلية مشوهة، خصوصا وأن نصوصه المؤسسة لا زالت قائمة وقابلة للدراسة بأسلوب علمي رزين .
 إن الدين ليس وهما أو هرطقة كما يريد له أصحاب العلوم الإنسانية ، ولكنه أيضا ليس شعوذةً خالية من المطنق كما يريد بعض المتدينين أيضا ، صحيح أن الدين لم  يتعمد استدرار الجدل والمطارحات الفلسفية المعقدة ، ولكن الخطاب الديني مع ذلك يظل يستثير بهدوء أدوات التعقل وكوامن الحيرة وبواعث الاستغراب لمواصلة التأمل والبحث الذاتي الهادئ في معطيات الكون بأسلوب يتماهى مع الاستعدادات الفطرية للعقل البشري  ، فذلك  أكثر السبل أمنا نحو الوصول للإيمان باعتبار أن العقلَ محدودٌ أمام المطلق الذي لا حدود له ومن هنا كان الدين يسعى لتركيز جهود العقل نحو الْخَلق ( ما سوى الله )  القابل للتعقل من حيث دلالته على الخالق المطلق. والذي يقابل التدين هو اللاتدين ويَجمَعُ ( الإلحاد واللا أدرية والدهرية ..) غير أن الإلحاد هو المصطلح الذي يأخذ الندية للإيمان أما اللاأدرية و الدهرية فهي تتراوح بين الشك ونفيه وهو موقف يفيد بأن مسوغات النفي غير متوفرة كما أن مسوغات الإثبات غير مقنعة وعلى هذا الأساس فالملحد هو الذي بَتَّ حبل القطيعة مع الدين، أما غيره فلايزال محتفظا ببقايا إيمان تُطاردُه .
 والمتأمل في الوجود من حوله يجد أنّ أدلةَ التدين أكثرُ عقلانية من أدلة الإلحاد علما أن الإلحاد يفسر قيام الوجود من محض الصدفة وهو أمر يصعب قبوله عقلا ، وينقل د. المسيري عن عالم فيزيائي كان ملحدا واعتنق الإيمان قوله : إن من يقبل خروج هذا العالم من محض الصدفة عقلا عليه أن يقبل بأن قردا جلس أمام لوحة مفاتيح آلة كاتبة وراح يضرب بيديه يمينا وشمالا وفي النهاية أخرج قصيدة منسقة وجميلة تنافس قصائد شكسبير روعة وجمالا ..!!  ومن لم يستطع أن يؤمن بهذه الصدفة لن يستطيع أن يؤمن بخروج هذا العالم المتقن والمنسق والواسع من محض الصدفة، ولهذا تحول القائلون بالصدفة إلى القول بأن المادةَ ذاتيةُ التخلق وهو قول لا يساهم بقدر كبير في الخروج من المربع الأول .
إن تَعقّل ماهيةَ هذا الكون  وعلةَ العلل فيه وهي المنطقة الغيبية التي ظلت تأخذ حيزا في الفلسفة تحت عنوان "الميتافيزيقا" أمر في غاية الصعوبة ، وكل الجهود العقلانية  البشرية التي اهتمت بتلك المنطقة الحالكة لم تكن نتائجها على مستوى العناء الفكري  المبذول من أجلها؛ فالبراهين الفلسفية على تعبير -  د.طه عبد الرحمن -  سلسلة من القضايا التي يتهددها الوهم على الدوام  لهذا كانت التضارب في الأنساق الفلسفية والتناقض في البراهين من أهم سمات المواضيع الفلسفية حتى أن البعض يومئ بضرورة الحديث عن فلسفات متباينة إلى حد التضارب، عكس الرسالات السماوية التي تدور حول محاور محددة وثابتة مهما اختلفت بيئاتها ؛ كالله واليوم الآخر والجنة والنار ...إلخ ، وهي أمور تفيد بوحدة المصدر والنفاذ إلى الحقيقة من مشكاة واحدة ، أما الأبحاث الفلسفية فإن الغالبية العظمى منها قد أخذت مسالك شتى تدل على حيرة أصحابها أمام هذه المعضلة رغم أن بعضها كان قد اقترب من مضامين الدين كما هو الحاصل مثلا مع نظرية المثل لدى أفلاطون وبعض الفلاسفة المتدينين على ندرتهم في القرون الوسطى والعصر الحديث .
 أما العلم الحديث فقد اتخذ مواقفَ أكثرَ منطقية باعتباره غير قادر على الإثبات أو النفي  عبّر عنها الفيلسوف والرياضي الفرنسي  باسكال ( ت 1662م )  بمصفوفة احتمالية تنطلق من احتمالين اثنين هما :
الأول -  ( الإثبات ) : إذا كان الفرد يجادل لصالح وجود الله فإنه يضع نفسه في نهاية المطاف أمام احتمالين، لا غير:
1. إذا انكشف الغطاء وتبين أن الله موجود فعلا،فستكون نتيجة هذا الموقف محمودة وسببا في سعادة القائلين به .
2. أما إذا انكشف الغطاء وتبين أن الله غير موجود، فلن يخسر من تبنى هذا الموقف أي شيء على الإطلاق.
الثاني – (النفي) :
 إذا كان الفرد يجادل لصالح عدم وجود الله، فإنه سيضع نفسه أمام الاحتمالين التاليين:
1)  إذا كُشف الغطاء وزال التريب وظهر أن الله موجود فعلا، فسيكون  مآل ذلك الموقف الكفر والخطيئة وبالتالي الخسارة الكاملة .
2)  وإن ظهر بأن الله غير موجود، فلن يخسر المرء أي شيء .
ويخلص باسكال من مقارنته هذه إلى أن الاحتمال الأفضل هو الاحتمال الأول ، وبناء عليه يقول: "من الحكمة أن يكون الإنسان مؤمنا بأي حال من الأحوال".
وهذا  الموقف هو نفس موقف الشاعر العربي أبي العلاء المعري (ت449 هـ ) إذ يقول :
قالَ المُنَجِّمُ وَالطَبيبُ كِلاهُما
لا تُحشَرُ الأَجسادُ قُلتُ إِلَيكُما
إِن صَحَّ قَولُكُما فَلَستُ بِخاسِرٍ
أَو صَحَّ قَولي فَالْخَسَارُ عَلَيكُما
ولا تقدم اللا أدرية شيئا ذا قيمة يذكر في هذا المجال وإن اعتبرها البعض  أقرب إلى العلم من الإلحاد ، و أول من تكلم عن اللاأدرية هم الإغريق تحت عنوان الاكْنوستية (Agnosticism ) ، وقد طور هذه الرؤية عالم الأحياء البريطاني توماس هنري هكسلي ( ت 1895م ) بتأكيده على أن الظواهر لا تقبل التصديق الاستنتاجي إلا إذا كانت مثبتة عمليا أو قابلة للإثبات العلمي، وماعدا ذلك يقع ضمن مجال ما أسماه بـ “الاكَنوستية” .
ومع أن الكفر من الناحية الاصطلاحية يشمل كل تلك التفسيرات السابقة ( اللا أدرية ، الإلحاد ، اللامبالاة  الدهرية .. ) فإن الاكَنوستية (اللامعرفة)  تختلف عن المواقف الأخرى نظرا لمسعاها وعدم توفيقها و لهذا فقد اعتبر بير تراند راسل ( ت 1872م )  أن الإلحادَ بضاعةُ الغوغاء وأنه لا يناسب الفلاسفة والمفكرين  وأكد أن الفرق الفني بين مفهومي الاكنوستية والإلحاد  هو أن  الأول يناسب المنطق الفلسفي ويصلح أكثر للنخبة التي تعي الفلسفة أما الثاني فإنه يناسب منطق الشارع ويصلح استخدامه لعوام الناس .
بيد أن هذا الموقف قد يطرح  تساؤلا من نوع آخر مفاده : لما ذا لا نوفق أصلا إلى الإيمان طالما أن الله خلقنا وطالبنا به ؟ وهو تساؤل يستبطن ضمنيا ثنائية الخير والشر كما جاءت على لسان الفيلسوف اليوناني أبيقور (ت في القرن 3 قبل الميلاد ) ، ويجيب الفيلسوف الألماني لبنتز ( ت 1716م ) على تلك التساؤلات بقوله : إن  وجود الشر مطلوب لخير أعظم ولعالم أجمل، وإذا كان وجود الشر وسيلة لهذين الهدفين، خرج عن كونه شرا،وأصبح خيرا ؛ فالأساطير اليونانية تقول إن الآلهة لما أرادت أن تجعل كل ممتلكات ملك فريجينيا "ميداس" ذهبا ، بات أفقر مما كان حيث أصبح كلما تناول شيئا استحال ذهبا .
وخلاصة القول : أن الإيمان يمارس دور الترشيد والتوفير للعقل البشري عندما يتبنى طريقا مختصرا نحو التصديق والالتزام بأوامر الدين ، لكنه مع ذلك مبني على أسس عقلية ليس في وسع العقل دفعها، وهو أقوى عقلانية من اللاإيمان بدليل تفسيراته المقنعة والمنسجمة مع متطلبات العقل والمنطق ، بالإضافة إلى أن الإيمان يمد الكون بالانسجام والتساوق نحو غايات محددة بدونها تكون هذه الحياة عبثا وخالية من المعنى .
                                                            

2 التعليقات:

غير معرف يقول...

لا نريد فلسفة ولا نريد غير ايماننا التقليدي الذي ورثناه من آبائنا وأمهاتنا فاضحك على آخرين كفانا فلسفة وجريا وراء اليونان والرومان والامم الكافرة التي لا تدين بدين ليس هؤلاء قدوة لنا ولن يكونو كذلك وبعد تتحدث عن البراهين على الإيمان الا يكفي أن الدين طالبك بالنظر والتأمل في ملكوت الله في السماء والأرض في الجبال والبحار وفي أنفسكم فأي برهان بعد هذا تريدون

غير معرف يقول...

مغالطات كبرى عندما تعتقد ان الدين بحاجة إلى دعم من الفلسفة يحستحسن أن تقرأ إضاءة الدجنة لتصيحيح معتقد انت أولا : أ واحذر اول اهل الفلسفة لانها محض الضلال والسفه

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : يحيى البيضاوي