إ تحديات ما بعد الاستفتاء : كيف نفتح صفحة جديدة لإدارة اختلافاتنا ؟ ~ يراع ـ البيضاوي

الأربعاء، 16 أغسطس 2017

تحديات ما بعد الاستفتاء : كيف نفتح صفحة جديدة لإدارة اختلافاتنا ؟



ليس نشازا أن يختلف أفراد مجتمع ما أو تتباين وجهات نظرهم وتتعدد تفسيراتهم للأزمات المعقدة التي تمر بها مجتمعاتهم، بل إن هذا التعدد وذاك التنوع هو البوصلة التي تحدد سلامة  مسار سفينة الوطن، ومدى التزامه بالمسار الديمقراطي، وليست ثمة قيمة حقيقية للديمقراطية أكبر من تحقيق الحرية، ولن تكون حرية ما لم يتحقق التنوعُ والاختلاف وتباينُ وجهات النظر .
  وإذا كان في وسع  تاريخنا الطويل أن يقدم لنا معلومة مؤكدة يتفق عليها الجميع لن تكون سوى أنّ غياب الحريات وتسيير الشعوب بالعقل الواحد والفهم الواحد لم ينتج لنا للأسف أي تقدم ولم يبن لنا أي حضارة، والأمة التي لا تستطيع أن تتعلم من أخطائها أمة لا تستحق الاحترام. 

لقد تركتْنا السنواتُ الأخيرة في حَيصَ بَيصَ من أمرنا، حيث بان للجميع أن الديمقراطية التي ننشدها وندّعي تطبيقها لم تتشكل بعدُ فينا على مستوى الوجدان. ولم نستوعب بعد أن الديمقراطية مجرّد وسيلة، وليست غاية تجعل السكوت ممكنا على أشكال من التنظيم لا تتجاوز السطح نحو عمق الممارسة وفلسفة الهدف ، والغاية النهائية من تلك الدندنة كلها يجب أن تصب في تنمية الوطن، وإذا كان الخلاف مع النظام لا ينبغي أن يكون سببا لتعطيل مصالح الوطن وتسفيه مسيرته التنموية ، فإن معارضة النظام لا تستوجب هتك الحرمات وسلب الحقوق والإمعان في القسوة على الطرف المعارض وإهانته.
لقد شارك الطرفان ( موالاة ومعارضة ) في صناعة تلك الأزمات، ولا ريب أن ثمة أصحابَ مصالح في كلا الطرفين كانت مصالحهم تقتضي تعقيد تلك الأزمات وزيادة مضاعفاتها ، وهو أمر قد لا يكون مستساغا  لدى العقلاء من الطرفين رغم أن الجميع انجذب إلى تلك الهوة وتفاعل معها بصورة أو بأخرى.
والآن بات من الواجب على العقلاء في  كل من الموالاة والمعارضة أن ينظروا إلى بقية الأخضر في الوطن وهشاشة اليابس على أرضه، بعين الرحمة والرأفة،فالتمادي في الصراع وفق فلسفة "كسر العظم " لم نعد نتملك له نفسا، والاستفتاء الأخير أنتج واقعا ملموسا سيترتب عليه الكثير مما قد نختلف على بعضه ونتفق على بعضه الآخر ، ولكن الحكمة تقتضي أن نفتح صفحة جديدة لإدارة هذا الصراع بأسلوب أكثر إيجابية وأقدر على تطوير الممارسة الديمقراطية  ذاتها ، ولا بد أن يتحمل الأكابر أكثر من غيرهم ، فأكثركم إيمانا أكثركم بلاء ، وكما يقول برتراند راسل : إن الديمقراطية الحقيقية هي التي تتيح للناس اختيار الرجل الذي ينال اللوم .
وهنا يكمن التحدي الحقيقي لما بعد الاستفتاء ، فلقد أتاح لنا هذا الواقع الجديد فرصة ينبغي أن نستفيد منها لنجدد في الوسائل ونغير في الأدوات فهل سوف نكون على مستوى التحدي؟
إن أول سطر يجب أن يخط في تلك الصفحة الجديدة هو التسليم بالواقع الجديد الذي ترتب على الاستفتاء باعتباره واقعا له من القوة الدستورية والقانونية ما يجعل القبول به واجبا على الجميع، وأن ننظر إلى مستوى الأفق من علٍ للزيادة في سقف الطموحات التي من شأنها أن تخلق فينا تغييرا حقيقيا  فكلما اتسعت مساحةُ اتفاقنا حول القضايا الكبرى من قبيل وحدة البلد وتماسك مكوناته وتوزيع ثرواته بالعدل والانصاف كلما نما وعلا سقفُ طموحاتنا في وجود موريتانيا حرة مزدهرة مؤمنة بأبنائها قادرة على احتضان الجميع وإسعاده  .
ولا بد أن ندرك أن في ثقافتنا البدوية ما لا يصلح  لمدنيتنا الحديثة ، فالقبلية والجهوية والطائفية أمراض قاتلة تنمو  تحت رعاية الفاسدين في أوقات الرخاء لتحميَهم في أوقات الشدة ، وهي العدو الأول للقانون و لقيم العدل والانصاف والمساواة ، وفي احضان تلك الآفات تظهر الطفيليات القاتلة ، فيتسلق المشهدَ ذوو الضعف والجهل والحماقة ، ويغيب ذوو الكفاءة وأصحاب العقل والخبرة ، ويتحول المجتمع إلى حالة من الاستقطاب الفائز فيها الأكثر خبثا وانحطاطا  والأقدر على حماية الشرّ ورعاية مصادره  ، لهذا لا  بدّ من  استصدار أنظمة قانونية تجرم اللجوء إلى القبيلة أو الجهة أو الطائفة تلميحا أو تصريحا ، للحصول على دعم في المجال السياسي سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو الأحزاب ، وتحديد العقوبة الرادعة لذلك السلوك .
ولا بد أن يسعى الجميع في وجود دولة قوية تمتلك من الهيبة والسطوة ما تقول به الحق وتحمي به الوطن وتطبق به القانون على الجميع وتنشر به العدالة ؛ فالدولة الضعيفة لا وجود للقانون فيها ، ولا سيادة للحق ، وهي مرتع للفساد والمفسدين .
والوقوف عند آلام الماضي لمجرد النُّوّاح أو التحسر لا يقدم شيئا ولا يؤخر آخر، فأخطاء الماضي غابت في طياته، والمسؤولية فيها على من فعلوها، " ولا تز وازرة وزر أخرى " لهذا يجب أن نسعى جميعا لانتشال المظلومين من واقعهم البئيس دون أن ننشغل بتسجيل الأهداف في مرمى الزمن الذي تولى بشره وخيره، وكل الطبقات في موريتانيا قد نالها من الظلم ما نالها . لقد آن الأوان أن نعلن ميثاق شرف بين كافة المكونات يلزمنا بالعمل لتطوير الحاضر وإزالة كل أشكال الظلم والجور والفساد، وأن نترك الماضي للملك الديان الذي لا يغيب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء .
والتغيير الحقيقي يبدأ بالثورة على الجهل وإشاعة العلم والمعرفة، وعلوم العصر يجب أن تنال العناية والتركيز فالحاجة إليها أكثر إلحاحا لتخلف مجتمعاتنا ، كما أن علوم الدين يجب أن تناول الأولوية وأن تدرس بأساليب حديثة ووفق مناهج منقّحة حتى تشارك في صناعة العقل السلم والوجدان المسلم وتساهم في توضيح الرؤية لمسيرة المجتمع وتسلح أفراده  بالأدوات التي تمكن لهم في دنياهم وتبصرهم في أخراهم .

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : يحيى البيضاوي