أ. د. مختار الغوث |
المسكوت عنه من حاجاتنا كثير، وأهمه حاجتنا إلى زعيم وطني، في فكره بناء الدولة، وفيه من المقومات الأخلاقية والقيادية ما يمثل به ما في فكره؛ فنحن شعب أزعجه القحط من خيامه إلى المدينة، فتاه على تخومها تتشاكس فيه بداوة، صيغت فيها عقوله، وحضارة، سيقت إليها أبدانه، تشاكُسَ الصِّبا والرجولة في المراهق اليتيم، تخرجه طبيعة البدن (البيولوجيا) من طور، عَهِده إلى طور، لمَّا يتهيأ له عقله، ثم لا يجد من يريه كيف يصير إليه.
سكنت أجسامنا قوالب الإسمنت، ولم نتحضَّر، إذ من أخص خصائص الحضارة النظام، وبقيت أرواحنا في الخيام، وإن لم نبدُ، والبداوة تُعذِر في الفوضى، ولم يقيَّض لنا -مذ رحل الربانيون من آبائنا- من يهبط بنا "مصرا". وأقتل شيء للتائه أن يوكل إلى ما يدَّعي من الاستبصار، قبل أن تُرى منه استقامة على الطريق، كما أن أضر شيء باليتيم أن تُدفع إليه نفسه قبل أن يؤنَس منه رُشْد! وخير مَنْ قادنا مَنْ رحل عنا كما ألفانا؛ فكانت حياتنا بما نعرف من التيه، والتناقض، والاضطراب، في كل شيء: في السياسة، وتتجلى في وفرة الأحزاب على غير برنامج، أو على برامج مستنسخ بعضها من بعض، وكثرة الانقلابات، وعشوائية التسميات في المناصب الحكومية، والطموح إلى الحكم لذاته، من غير تحصيل لمقوماته.
سكنت أجسامنا قوالب الإسمنت، ولم نتحضَّر، إذ من أخص خصائص الحضارة النظام، وبقيت أرواحنا في الخيام، وإن لم نبدُ، والبداوة تُعذِر في الفوضى، ولم يقيَّض لنا -مذ رحل الربانيون من آبائنا- من يهبط بنا "مصرا". وأقتل شيء للتائه أن يوكل إلى ما يدَّعي من الاستبصار، قبل أن تُرى منه استقامة على الطريق، كما أن أضر شيء باليتيم أن تُدفع إليه نفسه قبل أن يؤنَس منه رُشْد! وخير مَنْ قادنا مَنْ رحل عنا كما ألفانا؛ فكانت حياتنا بما نعرف من التيه، والتناقض، والاضطراب، في كل شيء: في السياسة، وتتجلى في وفرة الأحزاب على غير برنامج، أو على برامج مستنسخ بعضها من بعض، وكثرة الانقلابات، وعشوائية التسميات في المناصب الحكومية، والطموح إلى الحكم لذاته، من غير تحصيل لمقوماته.
وفي الإدارة، فكل شيء سائب؛ لأن "الصدور" ليست لهم غايات وراء الكراسي وما وراءها من المنافع، ولا يتصورون ما ينبغي أن يكون عليه عمل لا غاية له. والموظف يغدو ويروح كما يحلو له، ويفكر في كل شيء إلا أن يقوم بمهمته التي يتقاضى من أجلها أجره. ويُسجَّل في الوظيفة، يقبض أجرها وهو لا يعمل، وقد يكون مقيما بالخارج، حتى يتقاعد. ويوظف في السفارة والقنصلية وهو مقيم في الوطن، أو مدينة أو دولة غير التي بها "عمله"، وقد يزاول أعمالا غير عمله، فيكون تاجرا، أو حجَّابا، أو "شبشابا"، أو شيئا آخر لا يخطر ببال! و"موظفون"، يَقبِض أجورَهم من خلقهم. وآخرون يعارون لوظائف ليست في حاجة إليهم، فيُعطَون أجرين، لا يستحقون أحدهما، فيُثْرون، وغيرهم لا يجد ما يمسك رمقه. والمعمول به في العالم أن يعطى المعار أعلى الأجرين، وما يتبعه من امتياز، أما أن يعطى هذا وذاك فمن فوضى الإدارة الموريتانية!
وفي الاقتصاد، فالموارد سائبة، يتصرف فيها أفراد، يبرمون عقودا مع شركات، يقاسمونها ريع ما تُخرج، أو يعطونها رخصا برشوة. والشطآن نهْب للصيادين، نهْب للدول الأجنبية، تستنزف ثروتها استنزافا مبيرا!
والتعليم ليس له هدف ولا نظام، وأساتذة الجامعة لا يحضرون ولا يدرِّسون، ولا يُسألون عما يفعلون، ويتساوى في الأجر الحاصل منهم على أعلى المؤهلات العلمية والذي لم يحصل إلا على ديبلوم الدراسات المعمقة، ممن لا يدرِّس مثلُه -عادة- في كثير من الجامعات، ثم يتسمى بما لم ينل، وقد تكون لبعضهم أعمال في غير الجامعة، هم في أدائها أجدُّ، وعليها أحرص؛ لأنهم ضمنوا ألا مُخرِج لهم من تلك إذ دخلوها، ولا يضمنون هذه إلا بالجد فيها. وطلاب المدارس لا يُرَبَّون ليصلحوا للحياة، وإنما يغدون ويروحون من أجل شهادات لا تغير فيهم شيئا مما لقنوا من حياة الفوضى.
والشوارع كظيظ بالأوساخ، ومجْمَع للجيف والمستنقعات، وسوق سيزيم وسينكيم مثل على ذلك، وما أدري ما حال أسواق المدن الأخرى، إذ كانت هذه حال أسواق العاصمة! وبعض الشوارع تحرَق فيه الأوساخ، فتستودع من الأرض في الأبدان! والدواب والدواجن ترعى الأقذار والجيف، وتشرب المستنقعات، ثم يُؤكَل لحمها وبيضها ويشرب لبنها!
ولا يفصل بين دكاكين الأسواق إلا أزقة، توقد فيها الكوانين وصغار البوتجازات لطبخ الطعام والشاي، في الأيام الرَّيِّحة، بين حوانيت الملابس! حين يكون كل شيء معينا على إحراق السوق في دقائق! ولن تستطيع الحماية المدنية -إن كانت حمايةٌ- أن تخلُص إليها إلا بعد أن تصير هي ومن فيها حصيدا خامدين؛ لأن الأزقة بين الحوانيت لا يمكن المارَّ أن ينفذ منها، إلا أن يجمع عليه درَّاعته، ويضائل شخصه، وقد يُضطَر مع ذلك إلى أن يثب من فوق بضاعة، ترتفق بجانبها امرأةٍ! ولولا هزال الجسم لتعذر المرور في تلك الطرق التي يخيل إلى من رآها أنما جعلت للهواء دون الناس! فكيف تخلُص إليها سيارات الحماية، إن استطاعت أن تنفذ من زحام المرور وفوضى الشوارع؟! إنها كارثة قد تأتي في دقائق على اقتصاد مدينة، يا للأسف!!
والكوانين موقدة في الطرق، يُشوَى عليها اللحم، تَسفي عليه الرياح الترابَ الذي يروَّى كل يوم بما تُخرِج الأبدان، وتباع الأطعمة مكشوفة، قد تجمَّع عليها من الذباب أمثالها! أما اللحم النيئ فيقطَّع في الشوارع العامة على أعواد، ما أظن أن صاحبها يعرف التعقيم، فتراه مسودًّا مما علاه من وسخ، ولصق به من تراب، وتجمَّع عليه من ذباب. وقد رأيت بعيني العمال يأتون به في حوض سيارة مكشوف، يركبون فوقه، حتى يبلغوا به مكان بيعه!
والعلاقات الاجتماعية معرض من معارض الفوضى، فعلاقة الرجل والمرأة عكس علاقتهما في الدنيا، فلا بد أن تكون حياتهم بعكس الحياة. والأسماء التي هي عناوين البشر تتحكم فيها الفوضى: فالأصوات يتكلَّفها الرضيع ينادي أمه أو أباه، أو أخته أو أخاه، تُلصَق به، فيصير اسمه: داهي، ادَّاه، لُّولاَّه، ددَّ، ددو، إدَّ، إدِّ، إدُّ، آدُّو، إنَّ، مَمَّدْ، مدُّو، آفَ، إتَّاف، إتَّاتَّ، إفُّ، حَفُّ، مُّود، مَيَّمْ، مَنَّم، مَنَّ، تتُّو، توتُّو، دَيْجة، جتُّ، إلخ، بعد أن كان: عبد الله، محمد، مصطفى، محفوظ، محمود، مريم، فاطمة، خديجة، إلخ، واعْجبْ لشعب يسميه صبيانه!! وأشد ما تستبين سماجة هذا "الظرف" إذ تُدعى بهذه الأسماء واجهات موريتانية ورموزها، من سياسيين وعلماء، في بلاد ما ألِفَتْ في لغتها شيئا كهذه "الأسماء"، فتثير من الاستخفاف بموريتانية كلها خلاف ما تقتضيه منزلتهم، على الوجه الذي قال ابن قتيبة: "وقد يقدح في الحسَن قبْح اسمه، كما ينفع القبيحَ حسْن اسمه، ويزيد في مهانة الرجل فظاعة اسمه، وتُرَدُّ عدالة الرجل بكنيته ولقبه. ولذلك قيل: اشفعوا بالكُنى، فإنها شبهة. وتقدَّم رجلان إلى شُرَيح، فقال أحدهما: ادع أبا الكويفر ليشهد، فتقدم شيخ فرده شريح ولم يسأل عنه، وقال: لو كنت عدلا لم ترض بها. ورد آخر يلقب أبا الذِّبَّان، ولم يسأل عنه. وسأل عمر رجلا أراد أن يستعين به على أمر عن اسمه، فقال: ظالم بن سرَّاق، فقال تظْلم أنت ويسرق أبوك! ولم يستعن به. وسمع عمر بن عبد العزيز رجلا يدعو رجلا: يا أبا العمرين، فقال لو كان له عقل كفاه أحدهما".
وما أدري هل كان شريح يقبل شهادة من رضي أن يسميه رضيع بأصوات لا معنى لها، إن كان ردَّ شهادةَ أولئك، مع أن لأسمائهم -على سخفها- معنى، أو كان عمر بن عبد العزيز سيثق بعقله، أو كان عمر بن الخطاب سيستعين به في عمله!
ولا يشبه هذه الأسماءَ إلا لغةٌ صنعتها الفوضى من العربية والفرنسية، إذا سمعها المرء، لم يألفها قَفَّ شعره، واقشعر بدنه، واشمأز قلبه، وعجب كيف يرضاها امرؤ سوي! واستمع إن شئت إلى الألفاظ المستعملة في لغة الاتصال، والجمل التي تُركَّب منها، واعجبْ كيف عدل الموريتاني عن: أتصل بك، الإرسال، نَفِد الشحن، رسالة، الهاتف الثابت، إلخ، إلى: يرپي عليك، يپپي، ريزوه، شرجى، مساج، ڤيكس، إلخ. ثم لا تجد من يأنف من هذه اللغة المسيخ، أو يَخْزَى أن يتكلم بها، ولا من يفكر في صدها، أو يعي ما تنذر به من خطر على هوية "المراهق اليتيم"!
وكل شيء مرتجل، فلا تخطيط ولا نظام؛ لأن البادي ما يملك من أسباب الحياة إلا الحيوان، يتناسل على وجه لا يد له فيه، فيغتني على قدر ما يكون من تناسله أيام الخصب، أو يفتقر بهلاك ما يهلك منه أيام الجدب، وليس له تدبير في فقره ولا في غناه، إلا أن يبيع الذكور والمسانَّ منه، إذ تكثُر، فيدخر من ثمنها ما فَضَلَ عن ميرته، فإن تجاوز ذلك فبرع في التجارة اشترى منه صناديق الشاي الأخضر، أو الخنط (النسيج)، ليبيعها في الحي. وقد صنعت هذه الحياةُ ثقافتَه التي يوجزها البيت:
وفي الاقتصاد، فالموارد سائبة، يتصرف فيها أفراد، يبرمون عقودا مع شركات، يقاسمونها ريع ما تُخرج، أو يعطونها رخصا برشوة. والشطآن نهْب للصيادين، نهْب للدول الأجنبية، تستنزف ثروتها استنزافا مبيرا!
والتعليم ليس له هدف ولا نظام، وأساتذة الجامعة لا يحضرون ولا يدرِّسون، ولا يُسألون عما يفعلون، ويتساوى في الأجر الحاصل منهم على أعلى المؤهلات العلمية والذي لم يحصل إلا على ديبلوم الدراسات المعمقة، ممن لا يدرِّس مثلُه -عادة- في كثير من الجامعات، ثم يتسمى بما لم ينل، وقد تكون لبعضهم أعمال في غير الجامعة، هم في أدائها أجدُّ، وعليها أحرص؛ لأنهم ضمنوا ألا مُخرِج لهم من تلك إذ دخلوها، ولا يضمنون هذه إلا بالجد فيها. وطلاب المدارس لا يُرَبَّون ليصلحوا للحياة، وإنما يغدون ويروحون من أجل شهادات لا تغير فيهم شيئا مما لقنوا من حياة الفوضى.
والشوارع كظيظ بالأوساخ، ومجْمَع للجيف والمستنقعات، وسوق سيزيم وسينكيم مثل على ذلك، وما أدري ما حال أسواق المدن الأخرى، إذ كانت هذه حال أسواق العاصمة! وبعض الشوارع تحرَق فيه الأوساخ، فتستودع من الأرض في الأبدان! والدواب والدواجن ترعى الأقذار والجيف، وتشرب المستنقعات، ثم يُؤكَل لحمها وبيضها ويشرب لبنها!
ولا يفصل بين دكاكين الأسواق إلا أزقة، توقد فيها الكوانين وصغار البوتجازات لطبخ الطعام والشاي، في الأيام الرَّيِّحة، بين حوانيت الملابس! حين يكون كل شيء معينا على إحراق السوق في دقائق! ولن تستطيع الحماية المدنية -إن كانت حمايةٌ- أن تخلُص إليها إلا بعد أن تصير هي ومن فيها حصيدا خامدين؛ لأن الأزقة بين الحوانيت لا يمكن المارَّ أن ينفذ منها، إلا أن يجمع عليه درَّاعته، ويضائل شخصه، وقد يُضطَر مع ذلك إلى أن يثب من فوق بضاعة، ترتفق بجانبها امرأةٍ! ولولا هزال الجسم لتعذر المرور في تلك الطرق التي يخيل إلى من رآها أنما جعلت للهواء دون الناس! فكيف تخلُص إليها سيارات الحماية، إن استطاعت أن تنفذ من زحام المرور وفوضى الشوارع؟! إنها كارثة قد تأتي في دقائق على اقتصاد مدينة، يا للأسف!!
والكوانين موقدة في الطرق، يُشوَى عليها اللحم، تَسفي عليه الرياح الترابَ الذي يروَّى كل يوم بما تُخرِج الأبدان، وتباع الأطعمة مكشوفة، قد تجمَّع عليها من الذباب أمثالها! أما اللحم النيئ فيقطَّع في الشوارع العامة على أعواد، ما أظن أن صاحبها يعرف التعقيم، فتراه مسودًّا مما علاه من وسخ، ولصق به من تراب، وتجمَّع عليه من ذباب. وقد رأيت بعيني العمال يأتون به في حوض سيارة مكشوف، يركبون فوقه، حتى يبلغوا به مكان بيعه!
والعلاقات الاجتماعية معرض من معارض الفوضى، فعلاقة الرجل والمرأة عكس علاقتهما في الدنيا، فلا بد أن تكون حياتهم بعكس الحياة. والأسماء التي هي عناوين البشر تتحكم فيها الفوضى: فالأصوات يتكلَّفها الرضيع ينادي أمه أو أباه، أو أخته أو أخاه، تُلصَق به، فيصير اسمه: داهي، ادَّاه، لُّولاَّه، ددَّ، ددو، إدَّ، إدِّ، إدُّ، آدُّو، إنَّ، مَمَّدْ، مدُّو، آفَ، إتَّاف، إتَّاتَّ، إفُّ، حَفُّ، مُّود، مَيَّمْ، مَنَّم، مَنَّ، تتُّو، توتُّو، دَيْجة، جتُّ، إلخ، بعد أن كان: عبد الله، محمد، مصطفى، محفوظ، محمود، مريم، فاطمة، خديجة، إلخ، واعْجبْ لشعب يسميه صبيانه!! وأشد ما تستبين سماجة هذا "الظرف" إذ تُدعى بهذه الأسماء واجهات موريتانية ورموزها، من سياسيين وعلماء، في بلاد ما ألِفَتْ في لغتها شيئا كهذه "الأسماء"، فتثير من الاستخفاف بموريتانية كلها خلاف ما تقتضيه منزلتهم، على الوجه الذي قال ابن قتيبة: "وقد يقدح في الحسَن قبْح اسمه، كما ينفع القبيحَ حسْن اسمه، ويزيد في مهانة الرجل فظاعة اسمه، وتُرَدُّ عدالة الرجل بكنيته ولقبه. ولذلك قيل: اشفعوا بالكُنى، فإنها شبهة. وتقدَّم رجلان إلى شُرَيح، فقال أحدهما: ادع أبا الكويفر ليشهد، فتقدم شيخ فرده شريح ولم يسأل عنه، وقال: لو كنت عدلا لم ترض بها. ورد آخر يلقب أبا الذِّبَّان، ولم يسأل عنه. وسأل عمر رجلا أراد أن يستعين به على أمر عن اسمه، فقال: ظالم بن سرَّاق، فقال تظْلم أنت ويسرق أبوك! ولم يستعن به. وسمع عمر بن عبد العزيز رجلا يدعو رجلا: يا أبا العمرين، فقال لو كان له عقل كفاه أحدهما".
وما أدري هل كان شريح يقبل شهادة من رضي أن يسميه رضيع بأصوات لا معنى لها، إن كان ردَّ شهادةَ أولئك، مع أن لأسمائهم -على سخفها- معنى، أو كان عمر بن عبد العزيز سيثق بعقله، أو كان عمر بن الخطاب سيستعين به في عمله!
ولا يشبه هذه الأسماءَ إلا لغةٌ صنعتها الفوضى من العربية والفرنسية، إذا سمعها المرء، لم يألفها قَفَّ شعره، واقشعر بدنه، واشمأز قلبه، وعجب كيف يرضاها امرؤ سوي! واستمع إن شئت إلى الألفاظ المستعملة في لغة الاتصال، والجمل التي تُركَّب منها، واعجبْ كيف عدل الموريتاني عن: أتصل بك، الإرسال، نَفِد الشحن، رسالة، الهاتف الثابت، إلخ، إلى: يرپي عليك، يپپي، ريزوه، شرجى، مساج، ڤيكس، إلخ. ثم لا تجد من يأنف من هذه اللغة المسيخ، أو يَخْزَى أن يتكلم بها، ولا من يفكر في صدها، أو يعي ما تنذر به من خطر على هوية "المراهق اليتيم"!
وكل شيء مرتجل، فلا تخطيط ولا نظام؛ لأن البادي ما يملك من أسباب الحياة إلا الحيوان، يتناسل على وجه لا يد له فيه، فيغتني على قدر ما يكون من تناسله أيام الخصب، أو يفتقر بهلاك ما يهلك منه أيام الجدب، وليس له تدبير في فقره ولا في غناه، إلا أن يبيع الذكور والمسانَّ منه، إذ تكثُر، فيدخر من ثمنها ما فَضَلَ عن ميرته، فإن تجاوز ذلك فبرع في التجارة اشترى منه صناديق الشاي الأخضر، أو الخنط (النسيج)، ليبيعها في الحي. وقد صنعت هذه الحياةُ ثقافتَه التي يوجزها البيت:
ما مضى فات، والمؤمَّل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها
وما مازجها من شعور بقِصَر الدنيا، وقرْب الأجل، وذم طول الأمل. وهو شعور مستمد من فهمه لنصوص شرعية، لم يستوعبها كما ينبغي، أو قلَّدَ في فهمها من كان له شأن غير شأنه. ولعل هذا من أسباب أنه لا يكاد يُعرف مسؤول موريتاني، فكَّر في صنع شيء يبقى، وإنما كان المحسن ينفق ما تيَّسر فيما حضر، ولا يفكر فيما وراء يومه. وزاد بعضَهم ضعفُ انتماءٍ، صيَّر نظرته إلى وطنه كنظرة المستأجِر إلى الدار، لا يهمه ما آلت إليه، ما انتفع بها، إن رحل ولم يفطن مالكها إلى ما أفسد منها. ومن أنجز شيئا كان مُنْجَزه مفردا، في سياق "الساعة التي هو فيها"، وليس في سياق خطة؛ فلم يُنجَز في موريتانية -يوما- الحدُّ الأدنى من البنية الذي يؤهلها لأن تُعدَّ دولة، مهما بلغت من الفقر والتخلف. وبعض ما يوجد من المرافق -على سوئه- هو من أيام فرنسة، أو صدقة من دولة رقَّت لحالنا أكثر ما رق له بعضنا: كالقصر الرئاسي، والملعب الرياضي، ومستشفى زايد، والمستشفى القطري، وميناء الصداقة، وقصر المؤتمرات، والجامع السعودي، والجامع المغربي، إلخ. وليس ذلك من فقر الموارد، ولكنه فقر الضمير، وفقر الأخلاق، وفقر الحضارة!
والعفوية والارتجال والفوضى خليقة في البداوة، فمن دأبها أن ترى النظام والانضباط شيئا مما يَكْلَف به الشكليون، لا جدوى له؛ إذ يكلِّف النظام والانضباط من قدْع النفس ما يخالف تلقائية البداوة، التي ألِفَتْ أن تصنع ما تشاء حيث تشاء، وتأبى أن تُراض على غير ما ألِفت! فإن غُلبت تطلَّبت للتخلص كل وجه.
وبناة الدول في التاريخ أفراد غير عاديين، انقادت لهم شعوبهم، أو حمََلوها على أن تنقاد، حتى إذا أرسوا الأوتاد، وشيدوا الأركان، ونَهَج الطريق، دفعوا إليها أنفسها، فسارت على ما سنُّوا لها، "ولكل قوم سُنَّة وإمامها". ولم تبنِ جماعة أو حزبٌ أمةً، إلا أن تكون عونا على تنفيذ رؤية قائد، تدور في فلكه، وتهتدي بهديه. وندرة القادة في العالم الإسلامي الحديث سبب من أسباب إخفاق محاولات النهوض. سأل حاكمُ البنجاب في باكستان مرة الكاتبَ المصري، إحسان حقي: لم تقدمت الهند وتخلفت باكستان، مع أنهما في الأصل دولة واحدة، واستقلتا في عام واحد؟ فقال: قُيض للهند قائد وطني مثل جواهر لال نهرو، ولم يقيض لباكستان منذ استقلت قائد وطني.
وآية صحة هذا التعليل أن الدول التي كان لها زعيم وطني، يحمل مشروع الدولة هي أمثل دول العالم الإسلامي اليوم، مهما كانوا عليه من الاستبداد والتسلط، فماليزية ونهضتها حسنة من حسنات مهاتير محمد، ودبي أثر من "رؤية" محمد بن راشد آل مكتوم. وما أدري من تكون موريتانية بنتَه غدا، إن قُدِّر لها أن تُلتقط من التيه، لكنها لن تخرج منه إلا بيوشع، ولن تكون بنت حزب لا "روح" له.
وأول ما ينبغي أن يفكر فيه "يوشع" أن يتصور الشعب الذي يريد، ثم يضع من الخطط ما يصنعه، وصناعة الإنسان هي صناعة الحضارة، والتعليم والإعلام هما إكسير الشعوب. ثم يتلفت إلى بناء هيكل الدولة، من مدارس، ومساجد، وجامعات، ومعاهد، ومستشفيات، ووزارات، ومطارات، وشبكات طرق، وإدارات، إلخ، وتهيئة ضروريات الحياة من طعام، وماء، ولباس، وصحة، وتعليم، وعملٍ يؤمِّن لكل امرئ الحد الأدنى من وسائل العيش، وتخطيطِ المدن، على وجه يجعلها صالحة للحياة، وإذا توسعت توسعت وفق منهج، وتنميةِ الموارد المتاحة وخدمتها؛ حتى تكون مصدر دخل ثابت، يعول عليه في تسيير شؤون الدولة، ويمكن بعد ذلك التفكير في موارد أخرى يكون من شأنها زيادة الدخل، والإنفاق على الحاجيات. ولن يجدي ذلك ولن يستقيم ما لم يسبقه وضْع الموازين القسط، وكتابة القانون واضحا دقيقا، شاملا، لا يَكِلُ إلى الضمير وحده شيئا، وإنما يحدد لكل امرئ ما له وما عليه، في كل شأن من شؤون الحياة، ويقيم هيئات المتابعة والمراقبة في كل وزارة، وكل إدارة، حتى ينقاد الناس للنظام، ويوقنوا أن الأمر جد، وليس إلا القانون وحده!
وقد يكون من نافلة القول أن موريتانية -اليوم- ليس فيها من يمكن أن يتصور خطة الدولة الحديثة تصورا نظريا، فمن الخير ليوشع أن يستقدم من الخبراء من يخططها، وألا يعول على من لم يجرب، وإنما حسْبه، إن علم، أن درَسَ دراسة نظرية، ثقِف منها شيئا وغابت عنه أشياء، وانتظار أن يكون من الموريتانيين خبراء يغنون عن غيرهم من إهدار الوقت. ومن الخير -إن اقتنع بهذا- أن يتخير الخبراء المحبين الناصحين، الموافقين في الدين، على ألا يكونوا من العرب المقيمين في بلاد العرب، فإن بعض هؤلاء على الإيهام والحط في هوى الحاكم أقدرُ منه على البناء، فضلا عن قلة الخبرة. وحبذا لو عول على الخبراء الماليزيين، والخبراء المسلمين الغربيين أو المقيمين في الغرب، الذين جمعوا بين العلم والخبرة والنصح والثقافة الإيجابية، والحرص على المشاركة في بناء الدولة الإسلامية الحديثة. وفي هؤلاء من لو أتيحت له حياة مقبولة لم يتردد في القدوم، ليتعلم العلوم العربية والإسلامية في المحاضر، ويعلمها أولاده، ويعيش في بيئة، ما زالت تتسم ببساطة، يتوق إلى الفرار إليها من البيئات المادية الصاخبة بعض مسلمي الغرب. ولو قُدِّر أن يُستمال هؤلاء لكان في استمالتهم خير كبير لموريتانية ولهم.
حين يسير الموريتاني في شوارع نواكشوط، أو يدخل دائرة من دوائرها الحكومية، فيرى ما هي عليه، يأسف ألا يكون له وطن يحسن السكوت عليه، فضلا عن أن يعتز بالانتماء إليه، ويداخله العَجَب من حاكم، يرضى أن يكون رأسَ بلد، لا يعتز به أهله! وما أدري أذاك من أن: من يَهُـنْ يسـهلِ الهوانُ عليه مـا لجـرح بمـيت إيـلامُ
أم هو:
وما مازجها من شعور بقِصَر الدنيا، وقرْب الأجل، وذم طول الأمل. وهو شعور مستمد من فهمه لنصوص شرعية، لم يستوعبها كما ينبغي، أو قلَّدَ في فهمها من كان له شأن غير شأنه. ولعل هذا من أسباب أنه لا يكاد يُعرف مسؤول موريتاني، فكَّر في صنع شيء يبقى، وإنما كان المحسن ينفق ما تيَّسر فيما حضر، ولا يفكر فيما وراء يومه. وزاد بعضَهم ضعفُ انتماءٍ، صيَّر نظرته إلى وطنه كنظرة المستأجِر إلى الدار، لا يهمه ما آلت إليه، ما انتفع بها، إن رحل ولم يفطن مالكها إلى ما أفسد منها. ومن أنجز شيئا كان مُنْجَزه مفردا، في سياق "الساعة التي هو فيها"، وليس في سياق خطة؛ فلم يُنجَز في موريتانية -يوما- الحدُّ الأدنى من البنية الذي يؤهلها لأن تُعدَّ دولة، مهما بلغت من الفقر والتخلف. وبعض ما يوجد من المرافق -على سوئه- هو من أيام فرنسة، أو صدقة من دولة رقَّت لحالنا أكثر ما رق له بعضنا: كالقصر الرئاسي، والملعب الرياضي، ومستشفى زايد، والمستشفى القطري، وميناء الصداقة، وقصر المؤتمرات، والجامع السعودي، والجامع المغربي، إلخ. وليس ذلك من فقر الموارد، ولكنه فقر الضمير، وفقر الأخلاق، وفقر الحضارة!
والعفوية والارتجال والفوضى خليقة في البداوة، فمن دأبها أن ترى النظام والانضباط شيئا مما يَكْلَف به الشكليون، لا جدوى له؛ إذ يكلِّف النظام والانضباط من قدْع النفس ما يخالف تلقائية البداوة، التي ألِفَتْ أن تصنع ما تشاء حيث تشاء، وتأبى أن تُراض على غير ما ألِفت! فإن غُلبت تطلَّبت للتخلص كل وجه.
وبناة الدول في التاريخ أفراد غير عاديين، انقادت لهم شعوبهم، أو حمََلوها على أن تنقاد، حتى إذا أرسوا الأوتاد، وشيدوا الأركان، ونَهَج الطريق، دفعوا إليها أنفسها، فسارت على ما سنُّوا لها، "ولكل قوم سُنَّة وإمامها". ولم تبنِ جماعة أو حزبٌ أمةً، إلا أن تكون عونا على تنفيذ رؤية قائد، تدور في فلكه، وتهتدي بهديه. وندرة القادة في العالم الإسلامي الحديث سبب من أسباب إخفاق محاولات النهوض. سأل حاكمُ البنجاب في باكستان مرة الكاتبَ المصري، إحسان حقي: لم تقدمت الهند وتخلفت باكستان، مع أنهما في الأصل دولة واحدة، واستقلتا في عام واحد؟ فقال: قُيض للهند قائد وطني مثل جواهر لال نهرو، ولم يقيض لباكستان منذ استقلت قائد وطني.
وآية صحة هذا التعليل أن الدول التي كان لها زعيم وطني، يحمل مشروع الدولة هي أمثل دول العالم الإسلامي اليوم، مهما كانوا عليه من الاستبداد والتسلط، فماليزية ونهضتها حسنة من حسنات مهاتير محمد، ودبي أثر من "رؤية" محمد بن راشد آل مكتوم. وما أدري من تكون موريتانية بنتَه غدا، إن قُدِّر لها أن تُلتقط من التيه، لكنها لن تخرج منه إلا بيوشع، ولن تكون بنت حزب لا "روح" له.
وأول ما ينبغي أن يفكر فيه "يوشع" أن يتصور الشعب الذي يريد، ثم يضع من الخطط ما يصنعه، وصناعة الإنسان هي صناعة الحضارة، والتعليم والإعلام هما إكسير الشعوب. ثم يتلفت إلى بناء هيكل الدولة، من مدارس، ومساجد، وجامعات، ومعاهد، ومستشفيات، ووزارات، ومطارات، وشبكات طرق، وإدارات، إلخ، وتهيئة ضروريات الحياة من طعام، وماء، ولباس، وصحة، وتعليم، وعملٍ يؤمِّن لكل امرئ الحد الأدنى من وسائل العيش، وتخطيطِ المدن، على وجه يجعلها صالحة للحياة، وإذا توسعت توسعت وفق منهج، وتنميةِ الموارد المتاحة وخدمتها؛ حتى تكون مصدر دخل ثابت، يعول عليه في تسيير شؤون الدولة، ويمكن بعد ذلك التفكير في موارد أخرى يكون من شأنها زيادة الدخل، والإنفاق على الحاجيات. ولن يجدي ذلك ولن يستقيم ما لم يسبقه وضْع الموازين القسط، وكتابة القانون واضحا دقيقا، شاملا، لا يَكِلُ إلى الضمير وحده شيئا، وإنما يحدد لكل امرئ ما له وما عليه، في كل شأن من شؤون الحياة، ويقيم هيئات المتابعة والمراقبة في كل وزارة، وكل إدارة، حتى ينقاد الناس للنظام، ويوقنوا أن الأمر جد، وليس إلا القانون وحده!
وقد يكون من نافلة القول أن موريتانية -اليوم- ليس فيها من يمكن أن يتصور خطة الدولة الحديثة تصورا نظريا، فمن الخير ليوشع أن يستقدم من الخبراء من يخططها، وألا يعول على من لم يجرب، وإنما حسْبه، إن علم، أن درَسَ دراسة نظرية، ثقِف منها شيئا وغابت عنه أشياء، وانتظار أن يكون من الموريتانيين خبراء يغنون عن غيرهم من إهدار الوقت. ومن الخير -إن اقتنع بهذا- أن يتخير الخبراء المحبين الناصحين، الموافقين في الدين، على ألا يكونوا من العرب المقيمين في بلاد العرب، فإن بعض هؤلاء على الإيهام والحط في هوى الحاكم أقدرُ منه على البناء، فضلا عن قلة الخبرة. وحبذا لو عول على الخبراء الماليزيين، والخبراء المسلمين الغربيين أو المقيمين في الغرب، الذين جمعوا بين العلم والخبرة والنصح والثقافة الإيجابية، والحرص على المشاركة في بناء الدولة الإسلامية الحديثة. وفي هؤلاء من لو أتيحت له حياة مقبولة لم يتردد في القدوم، ليتعلم العلوم العربية والإسلامية في المحاضر، ويعلمها أولاده، ويعيش في بيئة، ما زالت تتسم ببساطة، يتوق إلى الفرار إليها من البيئات المادية الصاخبة بعض مسلمي الغرب. ولو قُدِّر أن يُستمال هؤلاء لكان في استمالتهم خير كبير لموريتانية ولهم.
حين يسير الموريتاني في شوارع نواكشوط، أو يدخل دائرة من دوائرها الحكومية، فيرى ما هي عليه، يأسف ألا يكون له وطن يحسن السكوت عليه، فضلا عن أن يعتز بالانتماء إليه، ويداخله العَجَب من حاكم، يرضى أن يكون رأسَ بلد، لا يعتز به أهله! وما أدري أذاك من أن: من يَهُـنْ يسـهلِ الهوانُ عليه مـا لجـرح بمـيت إيـلامُ
أم هو:
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم!!
0 تعليق على موضوع : المسكوت عنه من حاجاتنا ـ بقلم : أ. د . مختار الغوث
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات