نبض اليراع نبض اليراع
twetter
recent

آخر الأخبار

recent
recent
جاري التحميل ...

الهجرة.. من منظور آخر..!!



ليست الهجرةُ خصوصيةً بشرية يختص بها الإنسان من بين سائر المخلوقات؛ بل إن كل الكائنات الحية تعرف الهجرة وتَتَعَاطَى معها، فالحيوانات والطيور والزواحف والأسماك.. كلها كائنات غرز في قوامها البيولوجي القدرة على الهجرة، منذ قديم الزمان وحتى وقتنا هذا، حيث تمارس الهجرة لأسباب عديدة منها: البحث عن العيش الأفضل، أوالأمن، أوالتكاثر، أوالنمو..
وإذا كان في الهجرة آلام مفارقة الأهل والوطن فإن فيها من الفوائد ـ أحيانا ـ ما يجعل المرء يتغلب على ذلك الشعور فيغدو، ونصب عينيه  تلك الغايات،  متجاوزا صعوبات الانفصال عن الأهل والأحباب، وآلام القطيعة مع الأوطان، خصوصا إذا كانت الغايات والمقاصد التي تدفع بالمرء إلى الهجرة يتوقع منها أن تعين على بقائه أو تزيد في سعة رزقه ورَخائه ؛ كحال هجرة الجنوب إلى الشمال في أيامنا هذه ، رغم ما يحفُّ بها من مخاطر . فالهجرة هي التي هيأت الظروفَ لتلاقح الفنون والآداب، وتبادل المعارف والعلوم والخبرات، وتحاور الحضارات والثقافات، بل إن الهجرة كانت ديدن الرسل والأنبياء، والقادة والمصلحين عبر التاريخ؛ فهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام يهاجر من العراق نحو الشام ومصر، كما هاجر موسى عليه السلام أرضه نحو مدين، ويحتفظ لنا التاريخ بهجرة عيسى عليه السلام مع أمه البتول إلى مصر...
وهجرة خاتمِ الأنبياء والمرسلين سَيدِّنا محمد ٍصلى الله عليه وسلم  غُرّةٌ في جبين التاريخ حيث صنعت الحضارة وأنشأت الدُّوَّلَ وبنت المعتقدات الراسخة رسوخ الجبال الشمّ، ولقد حَثَّ القرآنُ الكريم على الهجرة إن وجد المرء عنتا في عبادة ربه؛ فقال جل من قائل: (( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)) فلقد قال المفسرون في تفسير هذه الآية: "هذا أمر من الله لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يمكن إقامة الدين، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم"(1)، وقد التزم سبحانه وتعالى بالسعة وذهاب ما يُتوهم وجودُه في الغربة لمن يخرج مهاجرا في سبيل الله : (( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً )) (2) . ولهذا كانت الأسفار - وهي ضرب من الهجرة المؤقتة-  في الشعر العربي محل تمجيد وإطراء لما تعود به من خيرٍ عميمٍ وأثر حميد على المسافرين وبيئاتهم، من جلب للمنافع والأرزاق، ونقل للعلوم والمعارف، بل إنهم عدوا أولئك الذين لم تتح لهم فرصة للسفر خارج أوطانهم كالماء الآسن:
وطُولُ مُقامِ المرْءِ بالْحَيّ مُخْلِقٌ       لِدِيبَاجَتِهِ فاغْتَرِبْ تَتَجَـدَّدِ
وهنا نود أن نقف على مفهوم الهجرة وعلاقته بالغربة، وهل ثمة علاقة وطيدة بين البيئة البدوية والهجرة؟ ولماذا تكون الهجرة أكثر سهولة على بعض الشعوب في حين نجدها صعبة ونادرة في شعوب أخرى؟ وهل للهجرة اليوم معان أخرى سلبية أو إيجابية؟  وأي تلك الأوصاف ينطبق على مجتمعنا .. ؟.
قال ابن فارس في مقاييسه: الهاء والجيم والراء أصلان، يدل أحدهما على قطيعةٍ وقطعٍ، والآخر على شدِّ شيءٍ ورَبطه. فالأول الهَجْر: ضد الوصل، وكذلك الهِجْران، وهاجر القومُ من دار إلى دار: تركوا الأولى للثانية، كما فعل المهاجرون حين هاجروا من مكة إلى المدينة.."(3)، ولقد ضبطَ ابنُ منظورٍ  اللفظةَ بضم الهاء وكسرها، وقال الْهُِجْرة:  ضد الوصل وهي مفارقة أرض إلى أرض ... فكل من فارق بلده من بدوي أو حضري أو سَكنَ بلدا آخر فهو مهاجر(4). والهجرة تتضمن معاني الغربة إلا أن الغربة قد تحصل للمرء دون أن يهاجر، كما أن الهجرة قد تحصل دون أن يعيش صاحِبُها غربةً كأن لا يجد المهاجرُ اختلافا في اللغة والثقافة والمعتقد في بلد المهجر. وإذا حصلت غربة دون أن تكون الهجرةُ أحدَ أسبابها فحينئذ تكون الهجرة شعورية حيث ينفصل المرء بروحه دون بدنه عن الواقع  وتداخلاته، على أن الغربة لازمة ـ في أحايين كثيرة ـ  من لوازم الهجرة، ولهذا كان العز بن عبد السلام يصنف الهجرة إلى هجرتين:  هجرة الأوطان، وهجرة الإثم والعدوان. على أن تكون هذه الأخيرة جزءا من الهجرة الشعورية  التي كثيرا ما تَحدَّث عنها المصلحون وأربابُ السلوك والتصوف، وحديثنا هنا مقتصر على هجرة الأوطان بالرسوم والأبدان  دون سواها.
ولا ريب أن هذا النوعَ من الهجرة كانت له فوائد جمة على مستوى البشرية قاطبة حيث عُمّرت بسببه قارات بأكملها واستثمرت خيراتها، وحفظت من خلاله شعوب من التلف والضياع، وفي عصرنا الحديث كانت الهجرة بردا وسلاما على الثقافة العربية حيث تنفست الصعداء من خلالها واستردت أنفاسها لتستعيد جزءا من عافيتها على يد أدباء المهجر في الأمريكيتين، وإذا ظلت الهجرة تسير وفق منطق التبادل الثقافي وعلى ضوء فلسفة الأخذ والعطاء  تكون محمودة، وحينما تخرج الهجرة عن طورها التقليدي لتتحول إلى نزيف للعقول واستيطان خارج أرض الوطن يكون هذا نذيرا من النذر التي تهدد الأوطان بالخراب، والثقافات بالتلف والضياع .
وقد لا تكون الهجرة شيئا يذكر بالنسبة للمجتمعات الرحل باعتبارها ديدنهم ومألفهم على مدى الأيام والسنين فالبدوي رَحّالةٌ  بطبعه، مُتَنقّل لا يعرف الاستقرار إلا حيث تتوفر مطالبه، ولهذا لا يأسف على مفارقة الأوطان إذ الأوطان بالنسبة إليه هي تلك التي وسعته وأمدته بحاجاته:
وفي الأرضِ مَنأًى للكريمِ عَن الأذَى     وَفيها لمن خَاف القِلَى متحوَّلُ
بل الأهل أحيانا يمكن التخلص منهم واستبدالهم بآخرين إن لم تتوفر لديهم طلبات البقاء فلقد صرخ نفس الشاعر السابق في وجه أهله وبني جلدته قائلا:  ولي دُونَكم أَهْلُونَ..!! نعم له دونهم أهلون حتى ولو لم يكونوا من جنسه البشري..!.  ولا يلام أولئك الأقوام على ذلك إذ أوطانهم في حقيقة الأمر هي الأرض التي قدمت لدوابهم الكلأ والمرعى، ولأبدانهم الأمن والغذاء، ولعل علاقة الحضري ( المتقري ) بأرضه يمكن فهمها من هذا المنظور أيضا باعتبارها تُلَبِّي حاجاتِه المادية والنفسيةَ، وهو نفس المفهوم الذي انْبَنت عليه المواطنة الحديثة وتأسست من خلالِه مَفاهيمُها .
لقد شهدت بلادنا أوائل القرن المنصرم هجرة صنفت على أنها هجرة للإثم والعدوان بعد أن تَمكّن  المستعمر من فرض هيمنته بالقوة على أرجاء واسعةٍ من أرض البيضان حيث شاع منطق الفرار بالدين والمعتقد، وتمت الفتوى بذلك من طرف بعض المشايخ مثل الشيخ ما العينين والشيخ محمد العاقب بن مايابى و غيرهما..  فغادر الناس أفواجا نحو بقاع أخرى من عالمنا الإسلامي واستقرت الغالبية في أرض الحجاز بمكة و المدينة ، وتعدت مجموعات أخرى الحجاز نحو العاصمة السياسية للخلافة الإسلامية آنذاك في تركيا، ومنهم من دخل أقاليم في الهند والسند.. وظلت هذه الهجرة متواصلة حتى عهد قريب وإن اختلفت وتيرة المهاجرين بين الفينة والأخرى حسب الظروف والإمكانات.  لقد شكلت هذه الهجرة ـ بالنسبة لنا ـ نزيفا حادا في مجال العقول والأدمغة المعرفية، لكنها مكنتنا من إعادة جسور التواصل وإحياء أواصر القربى بيننا وبين معظم بلادنا الإسلامية في المشرق الإسلامي  حيث كان المهاجرون يمثلون وجه شنقيط الحقيقي من خلال حضورهم المعرفي والثقافي حتى ارتبط المهاجر الشنقيطي في الذهنية المشرقية بالموسوعة المتنقلة، فكانت تطمئن إليهم الأنفس وترتاح لهم القلوب وتنجذب إليهم الأرواح، وكان أولئك المهاجرون ـ حقا ـ على قدر من المسؤولية مكنهم من التمثيل المحكم للشرع والوطن. فلقد كانوا علماء ربّانيين معلمين يحملون بين ضلوعم القرآن وعلومه، و اللغة العربية وآدابها، والفقه وأصول الدين، وعلوم الحديث والتاريخ، ولم يستنكفوا أيضا من أن يجلسوا في حلقات الدرس  - أحيانا - طلبا لمعارف أخرى لم يرضوا فيها عن مستوياتهم التحصيلية لكنهم  ما يلبثون أن ينتقلوا فيها من جِلسة الطالب إلى كرسي الأستاذ الذي تَلْتفُّ حولَه العقولُ المتلهّفة والأذهان المشدودة المتعطشة إلى العلم والمعرفة.
هذا كان واقع الهجرة في الأزمنة الماضية وهذا كان حال أسلافنا مع ذلك الحراك الكوني آنذاك.. فهل ما زالت النظرة للهجرة هي هي كما كانت؟ أم أن المفهوم قد تبدل وتغير؟  ولما ذا؟
من الملاحظ اليوم أن الهجرة التي تعني الانتقال من الأوطان والاستيطان في أماكن المهجر لم تعد مستساغة كما كانت من قبل، فالأوطان في عصرنا هذا أصبحت محاطةً بهالة من العوامل النفسية  والإجراءات القانونية والإدارية المعقدة  مما يجعل المهاجر يحتفظ بهذا الوصف للأبد ممّا يعني ترسيخ المعاناة واستمرارها لديه وعبر أجياله اللاحقة.. وحتى في تلك الدول الموصوفة بالتنوع العرقي، والتي تحافظ على ذلك التنوع، تظل الأعراق الأوفر والأكثر حظوظا تنظر إلى المهاجر بكثير من الريبة والدُّونية، وتجعل منه كبش فداء في أزماتها الطارئة؛ هذا ما حصل مثلا في بعض الدول الغربية بعد أحداث 11 من سبتمبر الشهيرة للمسلمين وخاصة من مُهاجَرةِ الأقطار العربية . فالمهاجر اليوم يمكن أن يقبل في إطار الهجرة المؤقتة بحثا عن العلم والمعرفة أو لتحسين بعض ظروفه الاقتصادية،  لكن أن يقبل في هجرة دائمة ويسمح له بالانسجام في مجتمعه الجديد أمر غير يسير، وفيه من العنت ما فيه، مع أن الهجرة الاستيطانية اليوم أصبحت تَصِمُ الشعوب، بكثير من التخلف والهمجية، وإن تم تفهم دواعيها من طرف البعض، وكَأنَّ المهاجرَ يَحملُ في أكمامِه الشؤمَ والعارَ، وكلَّ مسببات خراب الأوطان، وكَأنَّ لسانَ حال الشعوب المستضيفة يقول له: لو كان فيك أو في وطنك خير لما فارقته، ولآواك ووفّر لك ما تحتاج إليه. هذا حال الشعوب المتقدمة أما حال الشعوب المغلوبة على أمرها في عالمنا العربي فإن الهجرة اليوم أصبحت تقترن عندهم ذهنيا بالسطو على المقدرات وسرقة الإمكانات الاقتصادية وإيذاء المهْجَرِ وساكنته وهي عوامل أصبحت تتكدس وتتراكم لتشكل حالة نفسية في غاية الخطورة ، خصوصا وأن الإعلام المحلي لبلدان المهجر لا يتوانى في اتخاذ قضايا الهجرة والمهاجرين مادة إعلامية يستعيض بها عن عجز خطابه وضعف صناعته؛ فحينما ينظر إلى المهاجر من الزاوية التي يأخذ منها فقط، وليس من تلك التي يمارس من خلالها العطاء فهذا هو الظلم بعينه.  مع أن غالبية الشعوب العربية شعوب قبلية تحتفظ في قوامها الاجتماعي بالتمايز والتنافر والتنابز...  وهذا يجعل القيم القبلية هي التي  تؤطّر بقاء المهاجر وتحكم علاقاته بمجتمع المهجر، وفي البيئات القبلية لا يقبل الخطأ من غير أبناء القبيلة، بل يصبح خطأ الأجنبي خطيئة، لا يحاسب عليها هو فقط، بل يمتد العقاب لخلفياته الاجتماعية، بل ولأوطانٍ بأكملها في بعض الأحيان..
وإذا كان هذا حال الهجرات المنتجة والقادرة على العطاء، فما بالك بالهجرات الأخرى التي هي تكديس للمعاناة وتوزيع للفقر وإشاعة لثقافة الكسل والخدر الاجتماعي..!!  أليس ذلك النوع من الهجرة قنابل موقوتة تنتظر الانفجار؟؟  إذ من غير المعقول أن تتكدس العائلات في المهجر من غير عائل في بيئات متطلباتها ملحة لا تقبل التأجيل خصوصا تلك المتعلقة بالسكن من إيجار ومأكل ومشرب، وبالصحة من علاج وتمريض.. بالإضافة إلى أمور أخرى غَيرِ قليلة، تقتضيها الإقامة في المهجر ، فكيف نتصور مواصلة هذا اللون  من الهجرة؟ وإلى أيّ حد سيكون مقبولا اجتماعيا لدى البلدان المضيفة؟ والأهم من ذلك كله ما هي المبررات النفسية والعقدية التي تجعل من هذه المعاناة قضية مستساغة مقبولة بل ويؤجر فاعلُها أحيانا..! ؟؟
أمور من بين أخرى سنعرض لها لاحقا،بحول الله، وقبل ذلك ينبغي أن نستدرك  أن الجهد الذي يبذله كثير من المهاجرين في أوطان المهجر بحثا عن لقمة العيش أو التحصيل المادي، لو استثمر بعضه في جنبات الأوطان الرئيسة، لكان خيرا وبركة على الفرد والمجتمع والوطن بأكمله.  والشعوب المتقدمة اليوم لم تتقدم من خلال مواردها الطبيعية بل تقدمت من خلال قواها البشرية والاستثمارِ في تلك القوى، فتمكنت بفضل تلك النظرة الثاقبة من أن تستحوذ على موارد الشعوب المتخلفة بثمن بخس، وإعادتها إليهم في صناعات مختلفة، بأثمان خيالية، مقارنة مع أثمانها كخام يوم أن خرجت من مَدافِن أوطانها الأولى.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل،،،

الهوامش
ـــــــــــــــــــــ
(1)    تفسير ابن كثير (6/290).
(2)    التفسير الكبير ( البحر المحيط )
(3)    معجم مقاييس اللغة (6/34)
(4)   لسان العرب،(16-4617/ 45)                                                                                            

كاتب الموضوع

نبيض اليراع

1 تعليق على موضوع : الهجرة.. من منظور آخر..!!

  • اضافة تعليق
  • الهجرة الى البلاد المقدس اسمى وانبل من انتربط بالهجرات الاخرى لاوربا او امركيا


    الأبتساماتأخفاء الأبتسامات



    إتصل بنا

    التسميات

    أعلن هنا

    عدد زوار المدونه

    جميع الحقوق محفوظة لـ

    نبض اليراع

    2023