نبض اليراع نبض اليراع
twetter
recent

آخر المشاركات

recent
recent
جاري التحميل ...

مستقبل العمل الإسلامي في موريتانيا

ربما كان مفهوم العمل الإسلامي أكثر وضوحا في بعض بلدان المشرق العربي منه في بلادنا لأسباب تتعلق بتنوع الملل والنحل في تلك البلدان حيث تنتشر بنسب متفاوتة ديانات خارج دائرة الإسلام تسعى لنشر مذاهبها أو للاحتفاظ بمكانتها التقليدية داخل تلك المجتمعات كالنصرانية واليهودية وبعض الديانات المنقرضة التي لم يعد لها وجود إلا في تلك المناطق مثل الكلدانية والآشورية والصابئة .. إلخ ،
ومن ثم فإن رفع شعارات من هذا القبيل في خضم ذلك الموج المتلاطم من الأفكار والرؤى والمذاهب أمر لا يخلو من مشروعية تذكر ، إلا أن الأمر يختلف تماما عند ما ندخل الحدود الموريتانية ومن أيّ جهة شئنا حيث ينتشر الإسلام وتنفرد العقيدة الإسلامية بالساحة الاجتماعية بشكل كامل داخل تلك الربوع ، ومن هذا المنطلق قد يكون من باب الإطناب أو اللغو رفع ذلك الشعار لما يشي به لدى السامع من وجود عمل غير إسلامي داخل الساحة وهذا ما لم يسجله تاريخ المنطقة أبدا . ومفهوم العمل الإسلامي مفهوم مستحدث لا زال محفوفا بكثير من اللبس والخلط نظرا لتعدد الصور وتلون الماهيات التي يتجلى من خلالها في بيئاته الخاصة ، ولهذا كان أحد الكتاب الإسلاميين قد وصفه بأنه مصطلح رحّال، لم يألف الاستقرار نظرا لتنازع شعاراته وتقاسم عناوينه من طرف بيئات مختلفة تدّعي أنها امتلكت من الشرعية ما يمكّنها من الجلوس تحت فيء ظلاله ؛ لهذا نجد بعضا يدخل إلى هذا المصلح تحت طائلة الوعظ والإرشاد ، والبعض الآخر تحت حد السيف ومنازلة الخصوم ، وثمة من يراه مجرد توزيع للصدقات ومد يد العون والمساعدة للمحتاجين .. إلى غير ذلك . والذي يبدو كأنه شبه مستقر في الثقافة الإسلامية المعاصرة أن هذا المصطلح قد أفرزه الصراع الديني في المشرق والذي عمل المستعمر على تغذيته حتى أضحت كلمة التبشير في تلك البلدان لها من الصخب والضجيج ما يزعج المهتمين بشؤون الدعوة الإسلامية ، ومن هذا المنطلق سيكون العمل الإسلامي يحمل في أساسه معنى موازيا للتبشير الذي استعاد ألقه بفعل صولة المستعمر النصراني وقوته العلمية وهو نفس المصطلح الذي درجت الثقافة الإسلامية على تسميته بالدعوة ، لكن مفهوم الدعوة سيظل قاصرا عن تقديم رؤية أكثر اكتمالاً لمصطلح العمل الإسلامي كما يتم التعاطي معه في المجال الثقافي والمعرفي اليوم، ولن يأخذ المصطلح شكله كاملا إلا بإضافة الوعظ والإرشاد ، وكذلك ما يقام به من جهود خيرية، وما يتولد عادة عن ذلك الحضور الاجتماعي عبر الكلمة وتوظيف " اليد العليا " من طموح نحو السلطة والقيادة ، وهذا ما جعل المصطلح يسطو على مصلح الإسلام نفسه ، فأصبح بينهما من التماهي والتطابق ما هو واضح . ترى كيف استقبلت الساحة الوطنية هذا المفهوم ؟ وما هي تجلياته عبر الخطاب والممارسة؟ وهل كان تنزيل هذا المصطلح لصالح الإسلام والمسلمين في موريتانيا أم كان على حسابهما ؟ وما هي آفاقه المستقبلية في المنطقة ؟ لقد دخل العمل الإسلامي الساحة الوطنية عبر مراحل متعددة ، وكان المجتمع الموريتاني يومها في شغل من أمره قد تقاسمته البداوة والجفاف الماحق فلم يعد المجتمع يمتلك الخيار تجاه أي وافد بفعل غياب الوعي وتوقف أدوات الإحساس لديه بدليل أن المجتمع تلقف في غيبة من وعيه وفي نفس الآونة تقريبا خطابا آخر أكثر ندية للإسلام وللتدين بشكل عام ألا وهو الخطاب الشيوعي فتغلغلت رسائله السياسية غير العقدية داخل مفاصل المجتمع تحت شعارات مشابهة لم يستطع أن يميزها عن حقيقتها كشعار مساعدة للضعاف والمحتاجين و شعار النضال ضد الحكم المستبد وما إلى ذلك .. غير أن العمل الإسلامي ومهما كان دثاره سيظل محمودا دائما وأكثر تقبلا لدى مجتمع محافظ متدين كمجتمعنا الذي انكفأ بدينه بعيدا عن الحضارة تحيط به الرمال ويحميه قيظ الصحراء المتوهج من كل مكان ، فلن يكون ذلك الشعار إلا بردا وسلاما تطرب له الآذان وتشرئب له الأعناق وترقص له اللمم العوافي في تلك القفار الشاسعة ، وهذا ما حصل فعلا عندما رمتنا الأقدار بذلك المصطلح فهبت الأنفس تستقبله مدفوعة بأشجان الماضي وحسرة الحاضر وما فيه من تركة استعمارية مقيتة ، وهكذا أخذ العمل الإسلامي شكله النهائي في نهاية الثمانينات عبر أنساقه الثلاثة الإخوان والتبليغيين والجهاديين علما أن ثمة أنساقا أخرى تعود نسبتها إلى جهات تقليدية داخل المجتمع كالزوايا والطرق الصوفية، لكنها ظلت تحت التعتيم ومحصورة في زوايا ضيقة أيضا ، فكيف تعاملت هذه الأنساق مع الخارطة الوطنية بشكل عام؟ وما هي انعكاسات ذلك التعامل؟ لم يسجل لدى تلك الأنساق أي نوع من العمل الشمولي الذي يمكن أن يوصف بهذا المصطلح الواسع والمتشعب " العمل الإسلامي " إلا إذا استثنينا الإخوان فلقد ظل التبليغيون في ساحة المسجد يمارسون شعائرهم الدينية متورعين عن النزول إلى معمعان الحياة وصراع المآرب ولم يتجاوز خطابهم الوعظ والتوجيه داخل جدران المساجد ولم تكن لهم عناية تذكر بالعمل الخيري إلا في حدود فردية ضيقة ، غير أنهم كانوا أبعد الناس عن توزيع الأوصاف والألقاب على المخالفين من الأفراد والمجتمعات، فترك ذلك اعتبارا حسنا لهم في نفوس الناس باعتبارهم قد تعالوا عن الهمز واللمز في أعراض الناس أحرى التفسيق والتكفير ، وهذا ما وقعت فيه جماعة الجهاديين التي قسمت المجتمع الموريتاني إلى مؤمنين قلة وكافرين كثر، علما أن جماعة الجهاديين في موريتانيا خارجة في الأصل من رحم الإخوان واستجمعوا صفاتهم كاملةً تحت عباءتهم ، ولم يتمكن الجهاديون بعد من التعبير عن تصور أكثر شمولية للعمل الإسلامي لديهم لانشغالهم بالصراع والتدافع فكان حضورهم الدعوي والخيري والسياسي متواضعا جدا . ويبقى الإخوان أصحاب الوزن الثقيل في الساحة الوطنية من خلال مشروعهم الدعوي والخيري والسياسي لأنهم استوردوا مشروعا جاهزا لم يكن لهم فيه إلا التطبيق واكتساب المناصرين والأعضاء كما استورده غيرهم من المنتسبين إلى الحركة في العالم العربي، فكيف مارس الإخوان تنزيل هذا المفهوم " العمل الإسلامي " ؟ وما هو مستقبله لديهم ؟ لقد اتسم مفهوم العمل الإسلامي لدى الإخوان عموما بشمولية بالغة مما جعل المصطلح يقترب من التماهي مع مصطلح الإسلام نفسه وانتقل ذلك إلى الإخوان الموريتانيين فتوسعت الممارسة الإسلامية لديهم لتطال كافة مناشط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدعوية والسياسية .. وهو أمر له من الإيجابيات ما لا يخفى لكنه لم يسلم من سلبيات أخرى لها خطرها الحقيقي على العمل الإسلامي نفسه والمسلمين أيضا ؛ فإيجابيات تلك الممارسة تتمثل في نشر الوعي الديني وإحياء الوازع الإيماني لدى الناس والمساهمة كذلك في تشكيل فلسفة دينية أكثر وعيا بقدرات الفرد وإمكاناته ، غير أن الإشكال الحقيقي يتمثل في الممارسات التي رافقت تنزيل ذلك المفهوم حيث ظهرت مساوئ التصنيف والاصطفاف بارزة لتقسم الناس إلى فسطاطين ، وحيث تمت ممارسة الاحتكار للدين على أعلى المستويات تظهر تلك الممارسة بشكل أكثر سفورا في الممارسة السياسية من خلال الشعارات التي تضفيها الجماعة على مشاريعها السياسية إبان الحملات وما يرافق ذلك من تمزيق للعرى الاجتماعية عبر تسفيه الآخر والتقليل من شأنه عقديا قبل النيل منه سياسيا ،وظهرت تلك الممارسة أيضا في احتكار الخطاب الإسلامي على مستوى العمل الإسلامي وملاحقة الخطابات الأخرى التي تريد أن تعرف بنفسها خارج حدود الإخوان التقليدية حيث تمت ممارسة تشويه أفرادها ونعت مشاريعهم بجملة من الأوصاف المختلطة والتي تفتقر أحيانا إلى الانسجام حيث ينعتون مرة بالصوفية العلمانية ومرة بالليبرالية .. هذا ما حصل مثلا مع التيار الوطني الذي بدأت نبرته مؤخرا تعلوا بوصفه منشقا عن التنظيم السري لحركة الإخوان في موريتانيا ، وهو أمر يحيل إلى ضيق عطن للحركة الإخوانية ذاتها ويولد الشك في مدى قدرتها على تقبل الآخر بل ويطرح أسئلة ملحة عن مدى إيمانها بالتعددية ، علما أن فلسفة الإخوان الموريتانيين ظلت منبهرة بالخطاب الوهابي ، ترى في الخارجين عن دائرتها الفسوق وتشم من خلالهم المروق والعصيان ، ولم تحاول أن تستفيد من التنوع الذي عرفته البلاد منذ أوساط السبعينات والثمانينات فصاعدا حيث كان ذلك التنوع يشكل تفتقا لزهور مختلفة تنطلق من روض واحد وتغذيها ثقافة مجتمع واحد ، فكان من الأولى أن تظل راية العمل الإسلامي سقفا مفتوحا يأوي إليه كل من يمتلك رؤية لتطوير المجتمع المسلم ، فالقوميون مثلا والعلمانيون وحتى الليبراليون في موريتانيا هم جزء من المجتمع المسلم وليست مشاريعهم تستهدف هدم الإسلام وتسوية أركانه أبدا ، قد يكون لهم تقديم لجانب على جانب غير أن ذلك لا يخوّل لأي جهة أن تحرم المجتمع من قدراتهم وإمكاناتهم الهائلة، بل إن الإسلام قد يشكل الوسط الذي تشدّ كيمياؤه الجميع نحو البناء و التعاون واستلهام روح المواطنة . وكانت هذه النظرة هي الفلسفة التي قامت عليها حركة الإخوان الأولى، حين كانت موريتانية خالصة، وحين كان مدخلوها إلى الفضاء الموريتاني موريتانيين مذهبا ومعتقدا وسلوكا، كما تمثلت في مؤسساتها الأولى كالجمعية الثقافية ونادي مصعب بن عمير ؛حيث كان بعض مؤسسيها والمديرين لها لا يميزون موريتانيا من آخر ما دام يعمل وفق رؤية المؤسسة بغض النظر عن انتمائه السياسي وخلفيته العقدية والفكرية، فلما تغير مزاج الحركة العقدي اتجهت إلى جعل هذه المؤسسات واجهات لعملها غير المعلن ومصايد تقتنص روادها لتقنعهم سرا بوجهتها السياسية وأخذت تضيق ذرعا بمن لا يرى رؤيتها مما أدى إلى خروج من لم يكن مقتنعا بالمشروع الإخواني كما يراه التيار الوهابي الزاحف عبر بعض المؤسسات التعليمية والجمعيات الخيرية والخريجين القادمين من الخليج العربي. وكان من آثار السياسة الأولى سرعة انتشار الفكرة الإخوانية في الساحة الموريتانية لأنها وجدت ساحة متدينة مهيأة بالفطرة لقبول الخطاب الإخواني الذي لم تجد فيه ما يخالف ما عهدته في المحاظر والزوايا وسائر مناشط الطرق الصوفية والعلمية وكان من المتحمسين لها والملتحقين بها فقهاء وأبناء أسر علمية وصوفية معروفة ، فلما تبدل المزاج العقدي بدأ ذلك الزحف يتقلص وانحاز من له خلفية غير وهابية إلى خلفيته وتحفظ على الاتجاه وإن لم يعارضه معارضة صريحة أو يعامل قادته بالمثل أو بما تقتضيه خطورته على وجهته الفكرية في نهاية المطاف، لأسباب ربما نتحدث عنها في مقال لا حق. ولأن مفهوم العمل الإسلامي أيضا مفهوم بنائي مترابط فإن ظلال الفلسفة التي يؤطر بها العمل الإسلامي من قبل الإخوان انسحبت على كافة المناشط التي يطالها فأصبح العمل الخيري ممنهجا يتم توزيعه تبعا لسؤال الغاية النهائية : ما ذا سنستفيد نحن من وراء هذا العمل الخيري ؟ فالبيئات التي لا تستقبل الخطاب الإخواني بيئات محرومة منه ، وإذا كان هذا الاستثمار له علاقة مباشرة برفع نسب الإخوان عبر صناديق الاقتراع فإن ضرره بالغ على المشروع الإسلامي نفسه بشكل عام إذ يربطه بالاستغلالية والانتهازية وغياب الأخلاق . ولم يسلم التنزيل كذلك من آثار الثقافة البدوية التي ترى في قيم القبيلة والجهة والتراتبية الاجتماعية أمورا يجب أن تملأ الفراغ الحاصل نتيجة غياب السلوك المتمدن الواعي الذي يتأسس على الأهلية والكفاءة واحترام التخصص ، وهي قيم تكرس التناقض داخل الوعي الإسلامي نفسه حيث يعيش من جهة رفعة السلوك الذي ينشده الإسلام ويسعى إلى نشره ومن جهة أخرى تتضاءل الوسيلة على مستوى تلك الأهداف وتجمح نحو غايات أخرى يعبر عنها عادة بالأهداف المرحلية ،وهي مرحلية تتخذ دائما طابعا تبريريا أكثر مما هي مراحل يتم التنقل بينها في حقيقة الأمر . ترى ما هو انعكاس هذا التصور وما يرافقه من ممارسة على مستوى الخطاب نفسه ؟ لا يجادل أحد في أن المشروع الإسلامي بشكل عام يقع تحت ضغوط صعبة تجعل منه مشروعا لا يتحمل الأخطاء ، فليس المراد من هذا المشروع أن تتربع مجموعة على عرش السلطة في بلد ما ، فقد حدث ذلك في بلدان عدة لكنه لم يغن شيئا ، إذ المحافظة على السلطة وتطوير آلياتها في الخدمة الاجتماعية وتحقيق مستويات الرفاهية المطلوبة للأفراد أمر أكثر تعقيدا من مجرد الإمساك بزمام الأمور في بلد ما ، ثم إن المجتمعات وفئاتها المتبصرة لا تريد تكرارا لصور خلت فليس اليوم أي إسلام يرضيها ، كما أنه ليس في وسع أي إسلام أن يعيش اليوم وسط التدافع الحاصل بين الثقافات المتمدنة بل لا بد أن يكون المشروع الإسلامي مشروعا راقيا يتعالى على المطبات والمنزلقات التاريخية التي أجهضته ونزلت به من أول مرة نحو القاع ، ولا بد أن يكون للتقنية والرفاهية نصيب من ذلك المشروع. صحيح أن المشروع الإسلامي ينشد الدار الآخرة لكنه يسعى إليها عبر الدار الحاضرة والله سبحانه وتعالى يقول : " ولاتنس نصيبك من الدنيا" ، ويقول : " هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها "، بل هي مكمن الابتلاء الحقيقي الذي تحتك في ميدانه الركب ، بيد أن العمل الإسلامي في موريتانيا لم يستطع تجاوز عقدته التقليدية ولم يستطع أن يتجاوز النهج الذي تمت ممارسته من طرف نظرائه في العالم العربي أجمع فجاءت نتائجه غير مرضية لا للقائمين عليه ولا للمتتبعين لشأنه فكيف ذلك ؟ وما أسبابه ؟ لقد انشغل الخطاب الإسلامي تحت راية الإخوان باستعادة النمط المعرفي التقليدي عبر تراث المحظرة ، فكانت نظرته المعرفية لا ترقى عن مستويات التأزم الثقافي والمعرفي الذي أفرز ما نحن فيه من تدن معرفي ونظرة ضيقة تحصر الثقافة الشرعية في مستويات من الأنساق المعرفية التي تفتقد القراءة الجديدة والواعية لحاجات العصر وإشكالاته المتجددة والمتنوعة ، وعلى المستوى السياسي ما انفكت الخارطة الإخوانية في الوطن تستمطر المصطلحات والشعارات والفتاوى الدينية التي تعمل على تمزيق الساحة الوطنية وتعطي صبغة فئوية للخطاب الديني على الأقل لدى المثقفين من الناس فعزلت القوى الأخرى القومية والوطنية في زوايا تحت تأثير الشعار الديني مما قدم نظرة غير متكاملة للإسلام فهو لم يعد لدى هؤلاء ذلك الخطاب الذي يستهدف الناس كافة بل أصبح خطابا فئويا يتم الانتساب إليه عبر تزكيات بعض المشايخ أو من خلال توصيات النافذين في العمل الإسلامي نفسه ، ولهذا كانت القلة هي التي تنظر إلى الإسلام باعتبارها معنية بخطابه ، بينما ظلت الفئات الأكبر خارج إطاره، والهوة بين الاثنين ظلت في ازدياد دائم . ولعل الأمل اليوم بات يحدو الساحة الوطنية مجددا في ظهور خطاب جديد أكثر قدرة على الجمع تنصهر الجهود المختلفة تحت رايته ، ينزع نحو التغيير والتجديد بعيدا عن القوالب الجامدة التي كانت قدرنا في الفترات السابقة هذا ما بدأت ملامحه تظهر من خلال الومضات القليلة والغير مكتملة والتي بدأ التيار الوطني يبثها من حين لآخر ، وتبدو المنسقية المشتركة للعمل القومي والإسلامي أيضا تمثل خطوة أخرى في هذا الصدد ، غير أن ثمة عوائق طالما أنها موجودة أمام ذلك الحراك المشترك فستكون النتيجة دون المستوى ، فلا زال الخليط المعني بتلك المنسقية بعيدا عن أرضية العمل المشترك، يغازل التنسيق وينشغل في فضائه متمسكا بالتكتيك عن الاستراتيجي كأن كل خيط من خيوطه يريد أن يستغل الآخر في بقائه أو يجعله جوازا إلى الشعب أو السياسة بعد أن عجز خطابه الأصلي عن أن يتجاوز به . والحقيقة أن التنسيق وحده غير كاف في مجالات من هذا القبيل ، فلا بد أن يُتجاوزَ التنسيق نحو رؤية أكثر نضجا وأقرب إلى التكامل أو التوحد وأقدر على استيعاب الخلل الذي خلفته الإيديولوجية العروبية التي لم تعبأ بالتدين في خطابها وإن ظل عموم أفرادها متدينا شأنه شأن المجتمع الموريتاني ، وكذلك الإسلامية التي جرت الدين إلى السياسة ولم تعمل على جر السياسة إلى الدين ؛ بمعنى أنها ظلت تستثمر الدين لمصالحها تخلط تحته محظورات حضارية كاستنفار العشيرة والقبيلة وتوزيع صكوك التزكية شرطا للتعاون المشترك كل ذلك خدمة للمآرب الشخصية التي لا تضع اعتبارا للمصلحة العليا البلد. فجدير بالمنسقية أن تتجاوز مستويات التنسيق نحو التكامل البناء ، وأن تفتح صدرها رحبا للآخرين من مختلف الطيف الوطني واضعة في الحسبان مصلحة موريتانيا الحقيقة والتي هي إن تحققت ستتحقق المصلحة الدينية والوطنية باعتبار أن الشعب مسلم ومهما اختلفت رؤى أبنائه في المجال السياسي فلن يصل ذلك الاختلاف إلى حد يكون الدين الإسلامي نفسه مستهدفا داخل أرجائه، وفي هذا الإطار على المنسقية أن تتجاوز مستويات العشوائية والخطاب المرتجل وتعمل على وضع قواعد لبحث علمي أكثر استقرارا وثباتا تتناول من خلاله شتى المجالات الاجتماعية والثقافية والعلمية ويعمل على أن يقدم حلولا علمية للمشاكل الاجتماعية كالتفاوت الطبقي والعرقي بل ويدرس ظاهرة الغلو وخطورته على الإسلام والمسلمين ، وعليها أن تركز أكثر على دراسة القضايا الملحة والأكثر خطرا كانتشار الأمية والفقر وأسباب الهجرة ووقف نزيفها المستمر، بل وتعمل على استرجاع العقول المهاجرة، وتطوير مرافق الدولة وتنوير الناس بإمكانات التمدن الحقيقية من وعي بالواجبات وتبصر بالحقوق وتسامح مع الآخر وتقبل للخلاف والتنوع وإدارته بشكل إيجابي ، كل ذلك من أجل بناء موريتانيا حرة مزدهرة وآمنة ينعم كل أبنائها بخيراتها . وحينها سيكون العاملون للوطن عاملين حقا للدين وناشرين لثمرة التسامح والتآزر وقيم التعاون ، وفي غياب هذه الرؤية نكون قد وضعنا نهاية للمشروع الإسلامي نفسه عندما نكله إلى الجهات التي تسوغه في أطر ضيقة وطبقا لمآرب شخصية ، وسنكون ساهمنا في تشويه ذلك المشروع وتنفير الناس منه ، حتى ولو تسنى لذلك المشروع أن يصل إلى الحكم وهو أمر غير مستبعد في الظروف الراهنة، فسيكون محكوما عليه بالفشل حتى ولو بعد حين. ويجب على المنسقية أن تضع خطة عاجلة تتجاوز بها حالتها الراهنة وضعف حضورها في الشارع وخفة وزنها في السياسة وتعتبر الانتخابات البلدية القادمة معركة تخرج منها ولها اعتبار سياسي يؤهلها للمشاركة السياسية الفاعلة المثمرة في توجيه البلد وإلا فلن تستحق أن تتعب نفسها بأحزاب كالكبريت الأحمر يذكر ولا يرى فإن حزبا ليس له صوت في الساحة يدعو الأعداء إلى الشماتة أكثر مما يدعو الأنصار إلى التفاؤل. إن كثيرا من الخلاف بين الطيف الفكري والسياسي لأعضاء المنسقية خلاف وهمي وحين يدرس دراسة علمية نزيهة مجردة من العواطف والتاريخ لا يلفى له وجود حقيقي، وسبب ذلك أن بعضهم ما يزال متأثرا بأشخاص تاريخيين ومواقف عدائية بين المرجعيات السياسية خارج الوطن، ومن العقل والحكمة أن يتجاوز ذلك لأنه لم يكن يوما في مصلحة موريتانيا كما لم يكن في مصلحة أي بلد عربي آخر ، وهو خلاف قد اندثرت أسبابه على كل حال، فلا معنى لأن يظل بعض القوميين يتغنى بمجد جمال عبد الناصر وصدام حسين ، ويردد ما يصدر بعض الكتاب القوميين ، ويعادي من كان القوميون قديما يعادونه، لا معنى لذلك ، فقد أفضى كل إلى ما قدم ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل من الجميع صالح أعماله وأن يغفر له هفواته وزلاته . والذي تحتاج إليه موريتانيا اليوم هو خطاب يخصها ويبنيها، وإذا بنيت موريتانيا فستكون رافدا للعروبة والإسلام وإذا اقتصر كل اتجاه على تمجيد سلفه فلن نصنع أكثر مما صنع سوق المربد وعكاظ للعرب من النقائض والمنافرات التي كان لها أثر حميد في ازدهار الأدب ولكنها مزقت العرى والروابط الاجتماعية وشغلت بتمجيد الذوات وخلدت العداوات ونشرت ما كان مستورا من عيوب القبائل! أما العنصر الإسلامي فيجب أن يخلع الجبة ويلج العالم بمنطق غير منطق المشيخة والسبحة ويمتزج بالواقع ويعتبر نفسه المركِّب الجامع الذي تلتقي عليه الفئات كلها ويدرك أنه يمثل توجها إن لم يعمل له شيئا ويقدم من أجله خطابا على مستوى فكرته فإنه يعين على قتله. ولعل الثقافة الديمقراطية والأخلاقية التي تحيِّد حظوظ النفس والبحث عن المكاسب الشخصية وتقنع بأن الصواب نسبي وأن من الأخلاق أن تتنازل لمن تعمل معه عن بعض ما ترى في بعض المواقف من أجل استمرار التوافق وخدمة الفكرة العامة وبلوغ الأهداف المشتركة أمر لا دوام للوفاق من غيره. ولا بد مع ذلك كله من محاورة الطيف الاجتماعي الموريتاني وإشعاره بالاعتراف به ووضع خطة للتعاون معه من أجل المصلحة الوطنية فقد تكون له مواقف مبنية على الخطاب القومي السابق الذي ربما كان يحتاج إلى بعض الدبلوماسية وقد يفهم منه غير ما يريد أصحابه بالإضافة إلى أنه ربما كان قد شوه من قبل بعض الاتجاهات السياسية في الساحة لأسباب خاصة. إنني أكتب هذه المقالة من أجل أن أستفز المنسقية لعمل جاد وأستفز أقلام غيرها من المفكرين في الوطن لمناقشة القضية مناقشة جادة ينبي عليها خروج من الركود الذي نعيشه في ساحتنا الوطنية ، ولم أتعمد أذية أحد ، ولم أسع لوضع حلول . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ،،،

كاتب الموضوع

نبيض اليراع

2 تعليق على موضوع : مستقبل العمل الإسلامي في موريتانيا

  • اضافة تعليق
  • شكرا أخي البيضاوي مقال جميل ورائع

    (قد أفرزه الصراع الديني في المشرق والذي عمل المستعمر على تغذيته حتى أضحت كلمة التبشي....)
    هل تعتقد أخي يحي بأن خصوم التيار الإسلامي في الوطن العربي و الإسلامي-أعني هنا المجال الفكري,الثقافي,السجالي- هم أصحاب الديانات ؟ أم أن خصومهم الحقيقيين هم معتنقوا المذاهب الفكريةو الإيديولوجية المختلفة من من بني المسلمين أنفسهم, و الذين يرون أو على الأقل يرى الإسلاميون أنهم يحيدون الدين أي دين كان عن غير المجال الفردي التعبدي الخاص, و يتخذون من الثورة الغربية على الدين و معاقله مثالا لا يجوز التفصيل فيه, و أنه منطبق تمام الشكل على الحالة العربية الإسلامية.

    أخي يحي سعدت كثيرا حين عثرت على مدونتك, و أرجو أن أفيد فيها و أستفيد منها.
    محمد الأمين الداسي


    الأبتساماتأخفاء الأبتسامات



    إتصل بنا

    التسميات

    أعلن هنا

    عدد زوار المدونه

    جميع الحقوق محفوظة لـ

    نبض اليراع

    2023