لقد عرف التاريخ البشري محطات متباينة، اختلفت ألوانها وتعددت أنماطها وتغايرت نكهاتها ، وإذا كانت السمة الغالبة على تلك المحطات تتسم بالانتصار.. فإنها عرفت أيضا إخفقات ظلت تطارد الإنسانية عبر تاريخها ؛ صحيح أن البشرية انتصرت على الجهل وأثمرت معارف هائلة تجلّت في عمران الأرض وإن لم ترتفق بالطبيعة ، وتجلّت كذلك في محاربة الطغيان السياسي وكبح جماح الاستبداد والتسلط عبر أنظمة ديمقراطية حديثة ، لكن ذلك كله لا يستطيع أن يخفي وراءه عجز البشرية عن تلافي ظاهرة بشعة تطاول فيها الإنسان على أخيه الإنسان منتهزا فرص تفوقٍ آنية كان يجب أن تستغل لصالح البشرية و في تطوير إنسانية الإنسان، ألا وهي ظاهرةُ استعباد الإنسان لأخيه الإنسان ؛ حيث شكلت هذه الممارسة وصمة عار ظلت تلاحق هذا الكائن الناطق فترة غيرَ قصيرة ، حتى إنه يحق للمرء أن يسمي تاريخ البشرية وما أنتجته من حضارات بأنه تاريخ رق واستعباد؛ فأغلب الحضارات التي عرفتها البشرية في العالم القديم كانت من إنتاج سواعد الأرقاء،
بل لقد عرفت الحضارة الغربية المعاصرة نهما في الاسترقاق عجيبا انتقلت عبره قبائل وقرى بأكملها من القارة السمراء إلى حظائر السيد الأبيض في أوروبا ومستعمراتها وفي أمريكا مع ما كان يرافق ذلك من معاملة سيّئة ليس للإنسانية فيها أيّ نصيب، فلم يأت مؤتمر تحرير العبيد سنة 1906م إلا بعد أن أنهكت قارة بأكملها؛ فلقد أكد المؤرخون أن البرتغاليين وحدهم كانوا يزودون أسواق النخاسة في أوروبا وحدها سنويا بما يناهز ثمانية آلاف عبد .
و هكذا.. يخطئ من يظن أن الرقَّ ظاهرةٌ محصورة في منطقة معينة أو في شعوب محددة أو ديانة دون أخرى ، فلقد انتشر الرق وتمت ممارسته بشكل واسع لدى كل الشعوب وفي كل أنحاء المعمورة .
فمثلا نجد أن التاريخ قد سجل صورا بشعة من الرق لدى اليهود كانت التوراة قد أسست لها بنصوص في غاية القسوة تبيح استعباد اليهود بشروط، وغيرَ اليهود بدون شروط عبر القهر والتسلط فلقد جاء في سفر التثنية : ( حين تقرب من مدينة لكي تحل بها استدعها إلى الصلح ، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك ، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك ، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها ، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة غنيمة فتغتنمها لنفسك ) ، وتجعل التوراةُ مردّ الرق أسطورةً تقول بأنه كان إثر دعوة من نوح على ابنه كنعان الذي أبصر عورة أبيه نوح أثناء سكره فلما علم نوح بذلك دعا على كنعان وذريته؛ فلقد جاء في سفر التكوين أيضا : ( ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته ) .
ويرى كثير من المؤرخين أن انتصار المسيحية في العالم قبل الإسلام كان تعبيرا عن ثورة خلفية للمؤمنين الأرقاء الذين رأوا في الديانة الجديدة مخلصا لهم من واقعهم المأساوي الذي شاركت اليهودية بقوة في نسج خيوطه من قبلُ ، غير أن المسيحية ما لبثت أن تحالفت مع السلطان فخيبت الآمال التي علقها عليها معتنقوها في عصرها يومئذ وأيدت الرق ووقفت إلى جانب الأسياد فلقد جاء في رسالة بوليس كما في الإصحاح السادس : ( أيها العبيد ، أطيعوا سادتكم حسب الجسد، بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم، كما للمسيح ، لا بخدمة العين كمن يرضى الناس ، بل كعبيد المسيح ، عاملين مشيئة الله من القلب ، خادمين بِنيّة صالحة كما للرب، ليس للناس ، عالمين أن مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب، عبدا كان أو حرّا ) .
والأخطر من ذلك كله أن الفكر المستنير في أحيان كثيرة حاول أن يؤسس لظاهرة الرق ، وأن يجد لها مسوغات حتى لا يشمئز منها العقل المتحضر ، فلقد جعل مفكرو دولة أثينا الرق جزءً من نظام الإنتاج ، وأكد أفلاطون في جمهوريته أن مهمة الرقيق تنحصر في ممارسة العمل اليدوي خدمة للسادة الذين يتولون الممارسة الفكرية المجردة ، وحاول أن يجعل من واقعهم قَدَراً يصعب الانفكاك منه بأيّ حال من الأحوال .
وبمجيء الدين الإسلامي استعادت البشرية الأمل في تحرير الإنسان من طغيان أخيه الإنسان فلقد قرر الدين الإسلامي أنه جاء ليحرر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، فـالإنسان في نظر الإسلام " عبد لله وحده وسيد لكل شيء بعده "، وتدفق الناس أفواجا صوب هذا الخطاب الجديد الذي كان يحمل بشائر الانتصار في عالم الحرية وتطبيقاتها ،ولقد عبر زعماء قريش عن ذلك الإقبال بلغة طبقية مفعمة بعبق الاسترقاق كما حكى عنهم القرآن الكريم على لسان قوم نوح عليه السلام ((مَا نَراكَ اتَّبَعَكَ إلاّ الذِينَ هُمْ أَرَاذِلُناَ .. )) فاستوعب الإسلام كثيرا من الأرقاء وفتح أمامهم مجالا حقيقيا لتجاوز مستوياتهم الاجتماعية من خلال عطائهم المعرفي والاجتماعي، فظهرت طبقة جديدة من الأرقاء استطاعت أن تقدم نموذجا عالياًّ في المجال العلمي والاجتماعي والسياسي من أمثال بلال الحبشي، وأسلم العمري مولى عمر بن الخطاب، وابنه زيد بن اسلم أحد كبار أئمة الحديث، وحمران مولى عثمان بن عفان، والإمام نافع مولى عبد الله بن عمر شيخ مالك بن أنس، ، ثم من التابعين وتابعيهم خلق كثير من أمثال الإمام أبي حنيفة و الإمام مالك والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير .. وغيرهم ، واستقبلت المجتمعات المسلمة في بداية عهدها عطاء تلك الطبقة بكثير من الرضى والاعتبار ، غير أن الأمر ما لبث أن نكص على عقبيه بنكوص الواقع السياسي في العالم الإسلامي وترديه إلى دنيا الإمبراطوريات وعوالم الملك العضود فانطفأت جذوة الحرية المأمولة وعادت ممارسة الرق بشكل أفظع وأكثر بشاعة ..
ترى كيف تصور الإسلام مسألة الرق ؟ وما هي الحلول التي قدمها في صدد حل هذه المعضلة ؟ وبعبارة أخرى هل كانت المشكلة في غياب النص القانوني الذي يفترض حلا لهذه الظاهرة ، أم أن المشكلة في الممارسة والتطبيق ؟ وهل مارس الإسلام التدرج فعلا في حل تلك المعضلة ؟ ولما ذا لم يقف الإسلام أمام تلك الظاهرة بالحزم الذي وقف به أمام الكفر والإلحاد ؟
لقد أقر الإسلام مبدأ التكريم للإنسان ولم يضع شرطا أمام الإنسان لكي ينال حظه ونصيبه من تلك الهبة الإلهية التي دوّت في سابق الأزل معلنة التكريم تفضلا من الخالق الذي خلق فسوى و قدّر فهدى (( وَلَقَدْ كَرَّمْناَ بَنِي آدَمَ )) إنه تكريم شامل لبني آدم خال من القيود والمعيقات ، ويكفي هذا المبدأ لننطلقَ منه وبحرية كاملة نحو عالم التكليف والإعمار ، فلقد جاء الإسلام والدنيا في هرج ومرج يتقاتل الناس لأتفه الأسباب ، ويستغل القويُّ الضعيفَ ويسلبه إرادتَه وحريته وكرامته ، وكانت العبودية منتشرة في العالم العربي كنتيجة منطقية مترتبة على حالة الفوضى ووظيفة السلب والنهب التي كانت ديدن مجتمعات الجزيرة ، لقد تركت تلك الحالة الرهيبة في مجتمعات العرب مشاكل عديدة كان الرق من أهمها ؛ فرغم أن الرق كان منتشرا في الحضارات المحيطة بالجزيرة العربية إلا أن حالة الفوضى ساعدت على تعميقه وتجذيره داخل المجتمع العربي ، ولم تجعل للرق عنصرا أوعرقا دون آخر فكل شخص في أرض الجزيرة كان مهيئا في يوم من الأيام لأن يجد نفسه في سوق النخاسة وتحت أصوات المزايدة، ونتذكر يوم أن استولى أعرابُ البادية على أحد سادة فارس ( سلمان الفارسي ) تحت قهر السيف وسلطان القوة ليجعلوا منه عبدا في حدائق يهود بالمدينة المنورة ، مع أن استخدام القوة لم يكن هو المصدر الوحيد للرق بل كان النفوذ الاجتماعي والفقر منافذَ أخرى للرقيق داخل المجتمعات .
وجاء الإسلام ووجد هذه الظاهرة متجذرة داخل المجتمعات فاتخذ استيراتيجة مثلى للتعاطي معها ، فانطلق نحو المنافذ لمحاصرتها ، فرفض الاسترقاق عن طريق المراباة، والحروب الأهلية، واستخدام النفوذ الاجتماعي . وفتح في المقابل نوافذ أخرى للتخلص مما هو موجود بين يدي الناس منها؛ فأقر الاكتتاب و حرم التراجع عنه بأي شكل من الأشكال : (( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ )) بل ويعطى نصيبا من الزكاة لمساعدته في الوفاء بما تَحمّل في سبيل حريته ، و رغّب في العتق رغبة فيما عند الله من الثواب، وجعل الهزل فيه كالجد تحبيذا في إنفاذ العتق، وفرض لهم المعاملة الحسنة وجعلهم إخوانا وليسوا عبيدا ( إخوانكم خولكم ) ، وجعل الحرية كذلك كفارة للظهار والصيام وكفارة للأيمان والقتل ... ولم يترك الإسلام من منافذ الاسترقاق غير الجهاد .
ولو ظلت فلسفة الهدي النبوي تسوس المجتمع المسلم ، لكان الرق قد زال واندثر ، لكن الفتن التي حاقت بالمجتمعات المسلمة وما تلاها من اغتصاب للسلطة وتراجع لذوي القلم والرأي كان قد أحال المجتمعات المسلمة إلى شعوب مستهلكة موغلة في الاستهلاك والمتعة فتراجعت عن الهدي المحمدي وضلت الأمة طريقها فحاق بها ما حق من تخلف وهمجية .
و النافذة الوحيدة التي تركها الإسلام لتغذية الرق هي الجهاد ، علما أن الحروب التي خاضها الإسلام لم تكن تستهدف نشر الإسلام وتغيير ديانات الناس بالعنف وإنما كانت تستهدف إزالة العوائق أمام قوى التفكير ليتم الاختيار الحر الواعي دون تدخل أو توجيه ،وكانت معاملة الأسرى تنطلق من المعاملة بالمثل ، فإما أن يقتلوا أو يسترقوا ، والاسترقاق آنذاك كان أحلى الأمرين لما يصاحبه من معاملة حسنة وإمكانية حقيقية في الحرية مستقبلا والترقي في السلم الاجتماعي . علما أن معاملة الأسرى تركها القرآن الكريم لولي الأمر خيارا مفتوحاً يرى فيها رأيه (( فإما مناّ بعدُ وإما فداءً )) ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن هذه الآية ناسخة لكل الأحكام المتعلقة باسترقاق الأسرى ، وأنها من آخر ما نزل من القرآن الكريم . ولاشك أن معاملة الأسرى اليوم ستختلف عما كانت عليه قديما لو استعاد المسلمون هيبتهم ودخلوا في حروب مع أعدائهم ،فلقد أصبحت السجون أولى بالأسرى ، بعد أن رفضت البشرية الاسترقاق ومآلاته التي لم يكن الإسلام يقوم بها إلا معاملة بالمثل . وليس من الإنصاف أن يحاكم الإسلام إلا من خلال نصوص الوحي ( الكتاب والسنة ) وليس من خلال الفهم والممارسة ، وتظل النصوص الفقهية التي بوبت لظاهرة الرق ووضعت لها آليات وضوابط مجردُ توصيف لواقع وتقنين لما تتطلبه المصحلة آنذاك ، وليس تعبيرا عن إرادة الشرع تجاه مسألة الرق ذاتها .
وقد يتساءل أحدهم قائلا : ترى لما ذا لم يقف الإسلام أمام هذه الظاهرة البشعة بنفس القوة التي وقف بها أمام الكفر و الإلحاد ؟ ولماذا يعتمد مبدأ التدرج في مسألة من الخطورة بمكان ؟ سؤال مشروع خصوصا لمن هم خارج دائرة الثقافة الإسلامية وأصولها ، فظاهرة العبودية ظاهرة متجذرة داخل المجتمعات الإنسانية بما في ذلك المجتمع العربي ، وهو مجتمع قبلي بمعنى الكلمة أي أن القبيلة مرجع لسيادة الأفراد وحمايتهم وإيوائهم في الحيز الترابي المملوك للقبيلة ، ولو فرض الإسلام التخلص دفعة من الاسترقاق لكان ذلك يعني إيذانا بالقضاء على أرواح الرقيق وبالتالي خلخلة البناء الاجتماعي حيث لن يجدوا ملجأ في القبلية ولن يكون لهم نصيب في ممتلكاتها وهو ما يعني التشريد والإهانة ، وبدل ذلك قرر التخلص من هذه الظاهرة بهدوء كامل وأقر مبدأ الولاء ، فكان ( الولاء لمن أعتق ) حيث يصبح الرقيق بعد نيله لحريته جزءً من القبيلة يشاركها في أفراحها وأتراحها وواجباتها وتذود عنه بما تذود به عن أفرادها وأبنائها .
إن الإسلام لا يؤمن بالثورات كسبيل للتغيير الاجتماعي ، فالثورات لا تخلّف استقرارا بل كثيرا ما تترك ارتباكا وخللا في البنى الاجتماعية، ومَآلُ مجتمعاتها الاضطراب وتوالي الفتن ، وفلسفة الإسلام في التغيير الاجتماعي تنطلق من التغيير في ظل الاستقرار ، فكما أن التغيير الهادئ المؤسس على قناعات منطقية قد لا يكون سريعا إلا أنه أكثر بقاء وآكد استقرارا في البيئة الاجتماعية وأصعب زوالا ، لهذا كان التدرجُ سمةً من سمات الهدي النبوي في البناء والتغيير الاجتماعي .
ولا بد أن نذكر هنا أن البشرية اليوم إن استطاعت إخراج الرق - مشكورة - من الباب فقد أدخلته قوى الإنتاج والاقتصاد العالمي من النافذة ، فاستحدثت أنواعا من الرق لا تقل قيمة عن الحالة الأولى التي عرفتها البشرية ، فليس الرق إلا إهانة واستهتارا بإنسانية الإنسان ، فلقد ظهر الرق بأساليب جديدة أكثر بشاعة مع البرجوازية كتعبير عن نمط حديث من الرق كان يفرض نفسه على الضعفاء والمحتاجين الذين يمارسون العمل لدى الطبقات البرجوازية الثرية بحثا عن قوتهم اليومي ، وجاءت الثورة الاشتراكية كردة فعل على تلك الممارسة وعلى ذلك الرق الجديد الذي جاء عبر المال وإدارة الشؤون الاقتصادية فاستحدثت هي الأخرى رقا جديدا مارسته هذه المرة طبقة العمال ( البروليتاريا ) التي فرضت وجودها ورؤيتها بالقهر والهيمنة واستذلال الطبقات الأخرى ، وهانحن نعيش اليوم أساليب جديدة من العبودية تمارسها الرأسمالية من خلال العولمة وأدواتها المتحركة ممثلة في الشركات العابرة للقارات ومنظمة التجارة العالمية ومؤسسة البنك الدولي..، كل ذلك يصبّ في نفس الاتجاه ولا يحيد عنه بأي حال من الأحوال ، حيث الهيمنة الاقتصادية واحتكار التقنية واكتساح أسواق المجتمعات بالدعاية والإعلام وموجات الغزو الفكري وزرع القلاقل والمشاكل بل واحتلال بلدان بأكملها لاستغلال ثرواتها واسترقاق مجتمعاتها فالبشرية اليوم تعيش محنا وإحنا حقيقية بسبب موجات الاسترقاق الجديدة القادمة من وراء البحار ، وكأن البشرية قد كتب عليها أن تظل من استعباد إلى استعباد لا تتخلص من الأول إلا لتدخل في الثاني .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
0 تعليق على موضوع : إشكالية الرق بين التاريخ والدين
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات