نبض اليراع نبض اليراع
twetter
recent

آخر المشاركات

recent
recent
جاري التحميل ...

الثقافة المجترة

عرف مصطلح الثقافة بعضا من اللبس والغموض ، جرّاء كثرة الاستعمال في حقول معرفية متعددة كعلم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ والفلسفة والأدب والتربية، إلخ؛ لهذا نجد أحد الباحثين يحصر له ما يناهز المائتين من التعاريف .
وإذا كان المدلول الحرفي لـ ( ثقافة culture ) قد شاع من كثرة الاستعمال، فإن مدلوله الاصطلاحي ما زال يختلف باختلاف الحقل المعرفي الذي يستعمله ، ولقد استجمع مصطلح الثقافة خصائصه عبر مراحل زمنية متفاوتة خصوصا لدى الحضارة الغربية التي ابتعثته من مرقده أول مرة في محاولة منها لجعله عنوانا على الذوق الرفيع للنبلاء الذين ينعمون بالموسيقى وسائر الفنون الجميلة، ثم انتقل المدلول ليعبر عن القدرة على استخدام ملكة النقد للشعر والأدب ، وانتهى المصطلح مع حقل علم الاجتماع عموما والأنسنة على وجه الخصوص في وجهة أكثر اتساعا و شمولا حيث تم اعتماد تعريف تايلور الذي يرى أن الثقافة هي ذلك الكل المعقد الذي يعني العقائد والعادات والقيم والأخلاق ... ومن هذا المنظور فلن تجد أي مجتمع أو فرد بالتعبير الاجتماعي إلا وله ثقافة ، فطالما أنه حي يرزق في بيئة اجتماعية معينة فهو بكل تأكيد يمارس ثقافة.

ويبقى المضمون الذي تحتكم إليه تلك الحقول المعرفية في تحديد مصطلح الثقافة أيضا يحفه كثير من الغبش ، ولكننا سنجد أن ثمة مقياسا مُبيَّتاً ينطلق منه الفكر الغربي في تحديد جوانب هذا المصطلح ، حيث سنجد أن ثمة تقسيما آخر يجعل من الثقافة ثقافات متعددة تأتي في مقدمتها الثقافة المتحضرة وهي الثقافة الغربية وثمة ثقافات أخرى شرق أوسطية دون ذلك حتى إذا ما وصلنا إلى الشعوب الإفريقية وبعض من السكان الأصليين في استراليا مثلا نجد أن الثقافة أصبحت تنعت بالبدائية باعتبار أن المقياس الضمني الذي يتم التصنيف على أساسه هي الثقافة الغربية التي كان يُعبِّر عنها النسقُ المعرفي حيناً من الدهر بالوضعية ، وانتهت أخيرا في مقولة نهاية التاريخ .
وللثقافة دلالة أخرى هي التي نرمي إليها هنا ترتبط بوعي الأفراد لقدراتهم وإمكاناتهم وواجباتهم وحقوقهم ، وهو وعي مرتبط بالتطور العلمي من جهة ومدى انعكاس ذلك على حاجات الأفراد والشعوب ، وهنا تأتي الثقافة لتشحذ الهمم والإرادة من خلال توجيه السلوك المعرفي والحضاري في الاتجاه الصحيح .
وإذا كانت علاقتنا بالماضي تؤسس لانطلاقتنا نحو المستقبل ومن خلال وعينا بالحاضر فإن الثقافة هي التي تعمل على تصنيف الماضي و ترتيبه وتبويبه حسب حاجاتنا الملحة وأولوياتنا المرحلية، فمثلا : سنجد أن استدعاء الماضي بكل تجلياته وصوره لاستنباته في واقع الأجيال الحالية والمستقبلية يعني بشكل أو بآخر استمرارا لاستنساخ المجتمعات بغثها وسمينها وهو استنساخ ـ أيضا ولسوء الحظ ـ لن يتم بطريقة تخلو من التشويه لاختلاف البيئات والظروف وأحوال الناس . وبناؤنا لرؤيتنا الحضارية وواقعنا المعيش وفق منظور منبت عن الماضي يعني ضياعا للهوية باعتبار أننا سنقع على أسس هي جزء من منظومة اجتماعية أخرى تعبّر عن قيمها وتقاليدها ، فالثقافة إذن هي روح المجتمع ونكهته التي تشكل الحاضنة الأولى لذلك الكل المعقد الذي عبر عنه تايلور سلفاً...
وهكذا تتوزع الثقافة في اتجاهين اثنين اتجاه حيوي مبدع خلاق يمكن وصفه بالثقافة الخلاقة أو الإيجابية يمد أصحابه برؤية متقدمة لضروراتهم الحضارية وينمي وعيهم بإمكاناتهم العامة ويتولى تحديد خياراتهم في مجال موروثهم الثقافي . وفي المقابل سنجد الاتجاه الثاني للثقافة والذي يمكن وصفه بالثقافة المجترّة ؛ وهو لون من التصورات والمعتقدات والعادات وفهوم الوقائع الاجتماعية ومستجداتها يتسم بالركود و الجمود إلى حد التحجر... وهنا نتساءل ما أسباب ذلك الركود والجمود ؟ وما هي تجلياته ؟
وصف الاجترار للثقافة هنا لا يحتاج إلى توضيح كبير باعتبار أن الاجترار عمليةٌُ ليست من صفات الكائنات البشرية أصلاً ، ومدلول الكلمة اللغوي يعني استرجاعا واستدعاءً لماض يفتقر إلى التجديد سواء كان هذا الماضي مخزنا في معدة حيوان أو ذاكرة مجتمع باعتبار أن الأول يعيش على ما يخزنه في معدته وهو مخزون غير متجدد ، والثاني أيضا يعيش على مخزون آخر غير متجدد مَرْكُوم في الذاكرة الجمعية سميناه بالثقاة المجترة ، ولهذا كان المصطلح في غاية الدقة إلا أن استعارة الاجترار هنا تعني أن المسألة خرجت عن طورها البشري من جهة ، ومن جهة أخرى تعني الانكفاء على مخزون لا تستقيم الحياة البشرية الطبيعية معه دون إضافة أو تمحيص .
وتنحدر الثقافة إلى الاجترار عندما تغيب الرؤية المستقبلية ويخلو العقل من أهداف ينشدها في حياة الناس الاجتماعية ، فتنعكس الآلة الثقافية على ماضيها تقتات من ركامه مولية الظهر لواقعها ،فيفقد الفعل الاجتماعي وجهته ويضيّع هدفه في مستقبله ، ويصبح المستقبل عقيما غير قادر على التجديد وملاحقة ما يتغيّاه واقع الناس بل غير قادر حتّى على الإتيان بما جاء به الأوائل لهذا تجد الناس في مثل هذه البيئات يرددون أمثلة من قبيل: " ليس في الإمكان أحسن مما كان "، و" ليس في وسع اللاحق أن يجيء بما جاء به السابق" .
قد يقول قائل هذه نتائج لحالة مرضية أو هي أعراض من خلالها نشخص المرض... ولكنك لم تضع اليدَ – بعدُ - على أسباب الوجع وتدهور صحة المجتمعات الثقافية .. ؟ .
بَلَى .. في ذلك القولِ وجاهةٌ لا قِبَلَ لي بردّها ..غير أنني أريد أن أكد هنا أن هذه نتائجٌ وأسبابٌ في آن واحد ، فالمجتمعات تشكل كيانا مركبا كثير التعقيد ، الأمر الذي يجعل بعض الظواهر تستجمع عناصرها حينا من الدهر لتبرز في وقت متأخر فيعتقد البعض أنها وليدة اللحظة والحالة أن المنهج التاريخي يبين أن للظاهرة تاريخاً أبعد مما تبادر إلى الذهن حين ظهورها .
ويبقى رصد تجليات الاجترار دون تعقيد رصدِ أسبابه بسبب معايشتنا لتلك الظواهر ووضوح أثرها في حيات الناس اليومية ، حيث تكون تلك التجلياتُ واضحةً على مستويات عدة وعبر مراحل تاريخية متفاوتة تبدأ بالمستوى العلمي الذي يمثل رحم الأمم وآلية التوالد الحضاري لديها ، فستجد أن المستويات التعليمية قد انحدرت فتخلفت عن حاجات الناس وغاياتهم الحقيقية في التقدم والحياة الكريمة ، ذلك أن الثقافة لم تعد تقوم بدورها التوجيهي ولم تعد كذلك تدرك تفاصيل الأوليات فتصبح الرؤية المستقبلية للمجتمع ضبابية إلى أن ينتهي بها المطاف في وقت متأخر من تاريخ تلك الحالة إلى الالتفاف والدوران نحو القفا متوجهة نحو إنتاج الماضي لتحفّه بهالة من التقديس تجعله يتكرّس في وقت لاحق كمقصدٍ وحيد للمعارف لا نظير له ،ويتم ذلك تحت سلطان الفلسفة التي ترى أن اللاحق ليس في وسعه تجاوز ذلك الإنتاج بل وغير قادر على مجاراته فتصبح المعرفة منبتة عن حاجات البشر، وحينئذ ينحصر الابتكار و التجديد في مستويات التفكيك وإعادة التركيب ، وهكذا تجد أن الغاية من تلك المعرفة أصبحت منحصرة على مستوى الإلمام وليس على مستوى الانتفاع .
وثمة تجلّ آخر للاجترار الثقافي له ارتباط كبير بارتباك بوصلة المعرفة ، يتمثل هذه المرة في رؤية الأنا للآخر ، فلم يعد اعتبار المرء وتقديره مرتبطا بالعطاء العلمي ، وإنما هو مرتبط بالسند الذي يدلي به المرء إلى الماضي وما يصنعه من علاقة صهرية مائعة يتوهّمها الأنا لنفسه دون الآخر ، سواء كان هذا الآخر داخليا أم خارجيا ، فتعمل تلك الرؤية الضيقة على تضييق روح التثاقف وخلق حساسيات تجاه إمكانات التبادل الخلاق للثقافات والقيم والأخلاق والعلوم ... وفي وسط كهذا يغيب روح البحث العلمي والتحدي وتختفي عناصر المغامرة لدى الأفراد ، فتسير الأمور برتابة مملة لا تنتهي ، وتتضخم العقد النفسية لدى الأفراد كتعويض أو تبرير لواقعهم المترهّل تاركة أمراضا اجتماعية تنذر بواقعٍ مُتأزّم .
وبغياب العقل المتعلم الواعي يغيب روح الإبداع ومعاطاة النقد ، وتختفي القدرة على المراجعة ، وتشيع ظواهر التجزأ والانقسام كبديل عن النمو الطبيعي الذي يتم عادة داخل المجتمعات الطبيعية من خلال عمليات الاستيعاب والاحتواء ثم التجاوز، وكتعبير في عالم اللاشعور عن رفض ذلك الواقع الثقيل الذي لم يعد يلبي حاجات الانتماء وتطلعات الوجدان ...
وبمجرد أن تَأرِزَ الثقافةُ إلى مستويات الاجترار هذه فإنها تغيب عن الوعي وتترنّح خارج التاريخ ويشتد نزوعها إلى التقليد والمحاكاة ،وتفقد القدرة على استثمار الوقت والتعاطي الإيجابي مع المحيط وما يحويه من إمكانات الاستثمار في الزمان والمكان... وعندئذ تكون قد أذنت في انحلال المجمعات حيث تشيع الإهانة وتتلاشي معاني العزة ويميل الناس في تلك المجتمعات إلى إنتاج واحتضان القابلية للاستبداد والاستغلال بشتى معانيه ومختلف صوره .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

كاتب الموضوع

نبيض اليراع

0 تعليق على موضوع : الثقافة المجترة

  • اضافة تعليق

  • الأبتساماتأخفاء الأبتسامات



    إتصل بنا

    التسميات

    أعلن هنا

    عدد زوار المدونه

    جميع الحقوق محفوظة لـ

    نبض اليراع

    2023