إ وقفة مع اليوم العالمي للغة العربية ~ يراع ـ البيضاوي

السبت، 27 ديسمبر 2014

وقفة مع اليوم العالمي للغة العربية

يحتفل العالم العربي يوم غد الخميس الموافق 18 دجمبر باليوم العالمي للغة العربية ، وهو اليوم الذي أقرته الأمم المتحدة احتفاءً بدخول لغة الضاد رسميا إلى أروقتها، كلغةٍ حية يتواصل عبرها 
الملايين من الناس على سطح هذه المعمورة .
ولم يكن احتفاء تلك المنظمة بذلك اليوم قد جاء حبا في لغة القرآن أو احتراما لمكانة هذه اللغة وتقديرا لعطائها عبر التاريخ ،
وإنما كان قد انتزع من بين مخالبها انتزاعا في ظرفية تاريخية عرفت نوعا من الحضور الرسمي العربي الذي بدا في النصف الثاني من القرن المنصرم وكأنه يريد أن يُنجز شيئا  .

ولئن كان العالم " المتحضر" قد خضع لتلك المطالب يومئذ فإنه قد عاد إليها وعبر  مسارات أُخَر للقضاء على الإرادة التي صنعت ذلك الفعل أو أوهمت العالَمَ آنذاك بقدرتها على التحرك نحو الفعل ، وهكذا لم يبق من تلك الحقبة سوى هذا اليوم الذي يعود كلَّ سنة ليؤكد أن اللغة العربية  لغة بدون شعوب ... بل إن الواقع يشهد أننا لسنا أمام لغة عربية واحدة بل نحن أمام أكثر من عشرين لغة لكل منها خصائصها ومميزاتها وطموحاتها وعالمها الذي تتحرك فيه ..!
إنّ اللغة العرية تعيش بين مجتمعاتها الأصلية ، ومنذ الحقبة الاستعمارية،محنة حقيقية لم تزل تكبر وتشتد ككرة الثلج حتى أصبحت اليوم في وضع لا تحسد عليه إطلاقا ؛ حيث اقتنع ساستها وكثير ممن يحسبون على مجتمعاتها أنها غير صالحة لأن تكون لغة العلوم والتقنية في عصرنا الراهن، فحلت محلها لغات المستعمر في الإدارة والتعليم ،بل إن اللغة العربية في كثير من البلدان العربية اليوم تتم مضايقتها حتى على مستوى لغة التخاطب العادي بين الناس. ولئن كانت بعض البلدان العربية قد اتخذت في السابق بعض السياسات الخاصة التي جعلتها تظل متشبثة بالحرف العربي في بعض جامعاتها وفيي الإدارة بشكل عام  فالذي يظهر من حالها أنها لم تستطع الصمود لأعذار وأسباب مختلفة يطول المقام بذكرها هنا .
والسؤال المتبادر إلى الأذهان: إذا كانت الدول التي أبقت فترة من الزمن على علاقة باللغة العربية لم تغادر المربع الأول نحو النمو والتقدم ، فهل كان حال الدول التي تمردت على اللغة العربية أفضل ؟
إنّ غالبية الدول التي ترفع راياتها اليوم في المجال الجغرافي للعالم العربي لم تعد اللغة العربية هي لغة الدراسة أو العمل فيها، ولن تكون بكل تأكيد لغةً لأجيالها القادمة إن ظلت ملتزمة بهذا المسار . ومع ذلك لم يزدد واقع هذه الدول إلا ترديا حتى في تلك الدول التي تغفو أوطانها على ثروات طبيعية هائلة ؛ وآية ذلك مخرجات تلك الانظمة التربوية التي لا تتقن سوى أنها لا تتقن شيئا ،  والذين خرجوا  عن تلك القاعدة فهم قلة من ورائهم أنظمة تربوية وتعليمة خارجة عن بيئة العالم العربي، مما حدا بأحد مثقفينا ذات يوم أن يصف النظام التعليمي في العالم العربي بأنه "تعليم من أجل المعدة" ، إن تلك الوضعية لم تأت صدفة وإنما كانت بفعل الأنظمة  التي تخلت عن اللغة العربية  بدعوى أنها تسعى لامتلاك ناصية التحضر عبر ما أسمته بلغات العلم والتقنية في الغرب . لكنها " لا أرضا قطعت ولا ظهرا أبقت " إذْ لم تنجز ما هرولت إليه ولم تُبق على شيء مما فرطت فيه . فمشكل اللغة العربية في العالم العربي اليوم مشكل سياسي يتعلق بغياب الإرادة السياسية الفاعلة على مستوى البلدان العربية، إذ أن الساسة هم اللذين  يقررون المناهج ويضعون الخطط التربوية في غياب شبه مطلق لأصحاب الخبرة ودون أيّ مشاركة لأفراد المجتمع المعني بتلك الخطط والمناهج .
ولو تأملنا اليوم حال تلك الشعوب التي نهضت وقطعت أشواطا متقدمة من غير الشعوب الغربية لوجدنا أنها ظلت متمسكة بلغاتها ، تقدم العلوم والمعارف من خلالها، ودون أن تغلق الباب أمام اللغات التي أنتجت التقنية وابتكرت العلوم في الغرب ؛ فلقد حافظت اليابان على لغتها ولم تزل هي اللغة الرسمية للتعليم والإدارة . كما حافظت كوريا الجنوبية على اللغة الكورية، وحافظ الصينيون على الصينية ... والأمثلة أكثر من أن تحصر .
ولو قارننا بين السنغال وماليزيا وكل منهما دولة مسلمة مكثت تحت نير الاستعمار فترة من الزمن ثم انجلى عنها في ظرفية تاريخية متقاربة حيث ظهرت ماليزيا الاتحادية بشكلها الحالي 1963م  وقد تمسكت باللغة الماليزية ، والسنغال التي برزت للوجود كدولة مستقلة 1960 م وقد اعتمدت لغة المستعمر في كل شيء في الإدارة و التعليم  ، فسنجد أن لا مجال للمقارنة بين الدولتين لا في التعليم أو العمران  ولا في الصناعات أو التحديث بشكل عام .
إن الشعوب التي تمسكت بلغاتها في مجال تعليم أبنائها وإدارة شؤون حياتهم قد أدركت من أول يوم أن اللغة ليست مجرد أداة تواصل بل هي مخزون اجتماعي ونفسي ووجداني يتفاعل معها أبناؤها تفاعلا لا يحصل مع غيرها من اللغات الأخرى مهما كان مستوى إتقانهم لها ، ثم إن التطور والتجاوز مرتبطان تماما بالصيغة الكيميائية التي تحتفظ بها البيئة اللغوية وتحتكرها عادة على أبنائها ، ولقد أحسن عالم اللغويات السويسري دي سوسير إذ يقول :  إن اللغة مؤسسة اجتماعية ، بمعنى أن علاقة أبنائها بها ليست محصورة في مجرد التواصل .
وإذا كان مطلب التوافق والتراضي يستدعي في البيئات المختلطة دينيا وثقافيا أن يتم البحث عن قاسم لغوي مشترك لا يحسب على أحد الأطراف فإن الدول التي مَنَّ الله عليها بالانسجام في الملة و المعتقد والمذهب وقد عاشت أجيالها في جو من الانسجام والتؤالف  وتحت الظلال الوارفة لشجرة الإسلام المباركة، لا ينبغي أن تستبدل تلك الأرضية الثابتة بأخرى  لا مُستقرّ لها . وهذا حالنا نحن في بلاد السيبة ( موريتانيا حاليا ) حيث تعايش أجدادنا رغم تنوع مكوناتهم قرونا من الزمن وبدون سلطة رسمية ، يجمعهم الإسلام ولغته، دون أن تعلن أي جهة - قبل ظهور الدولة الحديثة -  رغبتها في التنصل من تلك البيئة أو حتى عن تعلقها بغيرها .
إن ما نعيشه اليوم من  توتر وعدم انسجام ونزوع إلى التفرد وعدم الرغبة في التناغم مع النسق العام، بل والبوح أحيانا بغياب الثقة بين مكوناتنا الاجتماعية المحدودة عَدَداً وعُدّةً، هو نتاج للنظام التربوي الذي سَيّر البلاد نصف قرن من الزمن ، والمسؤولية في ذلك كله تقع على عاتق الجيل المؤسس الذي فرط في وضع الأسس وتأسيسها بالشكل الأمثل يوم أن أراد تشييد الصرح الوطني الحديث ، وانفرد بِرُؤاه الضيقة واكتفى بوعيه المتواضع؛ فزرع التنافر والتطاحن والتنابز بين أنباء المجتمع،  وانتهج سياسة الالتفاف والدوران و إرضاء الجميع على حساب المصالح العامة . إن تلك الأخطاء تعتبر من العيار الثقيل التي لا ينبغي أن تستمر بدون علاج ، فكلما طال بها الزمن من دون أن تحظى بالحلول المناسبة باضت وفرّخت مشاكلَ لا قبل لنا بها ، وعلاجها لن يخلو من آلام تذكر ، ومع ذلك ينبغي أن يحرص أيُّ علاجٍ  أشدَّ الحرص على أن يحفظ لكل طرف القدر الأكبر من حقوقه ، دونَ أن تكون ثمة أيّ مساومة على المصلحة العامة للأمة الموريتانية، ويبقى السؤال الأكثر إلحاحا: من القادر على ذلك ؟ وبمعنى آخر من يمتلك الجرأة و القوة الأخلاقية ليحل تلك المعضلة في أيامنا هذه ؟ فهل مؤسساتنا المدنية  من أحزاب وهيئات قادرة على أن تتولى المهمة وتشرف على إدارتها بشكل أكثر نضجا ووعيا وفي جو من الحوار وتبادل الآراء البناءة ؟  أم أن المخزن ( الدولة ) هو وحده من يمتلك الأهلية  لتولي تلك العملية وإدارتها بالشكل الأمثل  عبر فلسفة جلب المصالح وجبر الأضرار، خصوصا وأن الدستور قد هيأ الأرضية لتلك الإصلاحات منذ فترة خلت بنصه نصا صريحا على أن اللغة العربية هي لغة البلاد الرسمية ؟
والاعتقاد السائد بين أوساطنا المثقفة أن الأحزاب القائمة لم تكن مهيأة لحمل هذا الهم الوطني الضخم، فهي أصغر قدرا وأضعف مَعْنى من أن تتولى تلك المهمة حيث انكفأت غالبيتها منذ تأسيسها على شخصياتها من رجال العشائر والشخصيات النافذة وذوي العلاقات الأيديولوجية الضيقة، ضاربة عرض الحائض بالمصلحة العامة للبلد . وكثير من تلك الأحزاب مسكون بهم الوصول إلى السلطة، ويمكن أن يبيع الأوطان بأي وهم يرى من خلاله  بصيص أمل يدنيه من السلطة، بعد ما باع المبادئ و القيم أمام الجميع، وبذلك تظل السلطة هي الأقدر فعلا  على تلك المهمة إن تسلحت بالحكمة والموعظة الحسنة واستعانت بقادة الرأي العام من مشايخ العلم والتصوف ورموز الوطن التقليديين .

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : يحيى البيضاوي