إ في خضم البناء .. وتحديات النهوض .. !! ~ يراع ـ البيضاوي

السبت، 28 أغسطس 2010

في خضم البناء .. وتحديات النهوض .. !!

مجسم لمطار نواكشوط الجديد
بعد تسعين يوما بالتمام والكمال تكون بلادنا قد مر على استقلالها نصف قرن من الزمان .. خمسون عاما أو خمسة عقود ذلك هو العمر الافتراضي للإنسان الموريتاني ... لكن أعمار الشعوب وتاريخ الحضارات لا تمثل السنوات فيها شيئا يذكر ، وتلك هي سنة الله في خلقه فكلما كان الكائن مُعمّرا أكثر تكون فترة تنشئته أطول ، فالكتكوت تتم فترة إعداده لِقَابِلِ أيامه عبر ساعات قليلة من تمزيق قشرة البيض من حوله ، بينما تستغرق الثدييات فترة أطول يقف فيها الصغير وينال من التجربة والخبرة ما يجعله في غنى عن أصله ، وهكذا كان عمر الإنسان .. يمضي منه الثلث في فترة الإعداد لكنه عمر طويل وذو قيمة مقارنة مع الكائنات الأخرى من الثدييات وأشباه البشر، وعلى مثل ذلك يمكن أن نقيس أعمار الشعوب .
صحيح أننا لو استثمرنا تلك السنوات التي مضت وحاولنا أن نجعل منها فترة تنشئة على الأقل للدولة الوطنية لكانت قد قطعت بنا أشواطا تذكر ولرمت بنا في خضم معترك النمو مع الدول النامية، ولأمكنها أن تضع قطارنا على السكة وفي الاتجاه الصحيح ، وبالتالي لانطلقنا في سير حثيث نحو البناء والرفاهية ، ولا شك أننا كنا ،ولا زلنا ، نمتلك الإمكانات اللازمة لو امتلكنا الإرادة الحقيقية لذلك .
خمسون عاما  ظهرت فيها أجيال وتوارت أخرى ، وكما هي الأوجه تتبدل سحناتها وتختفي قسامتها تحت آلام الزمن ومرور الأيام وتلفها التجاعيد والأسارير كذلك ظلت بلادنا تأخذ نفس المظهر إذ تعاون عليها كل من الجفاف وما يخلفه من تصحر قاس وأثر موحش وفساد في التربة والهواء  مع سوء تصرف من طرف ساكنتها؛ فكان الجفاف يسحق الأخضر واليابس من جانبه، والإنسان يعيث ممهدا له السبيل من طرفه .. تعاون عجيب جاءت به الأقدار ، لكنه مع ذلك لم يستطع ولن يستطيع أن ينتزع من الإنسان الموريتاني الممتلئ إيمانا بربه ووطنه  الأمل والتطلع نحو غده الأفضل، ولن يستطيع أن ينتزع من الأرض التي احتضنته أول مرة وفتح لها مآقيه كلما عانقت حبات الرمل بعضها بعضا في ثورة كاسحة على واقعها المتردي حنانها وقدرتها على التجدد والحيوية والعطاء ...
خمسون عاما بدأناها بمليون من البشر كنا يومئذ بمثابة جزء من حي بسيط من ساكنة مدينة من المدن الكبرى في مشرقنا العربي ،  مليون من البشر فقط .. في مساحة تقدر بمساحة فرنسا مرتين ..! ، ونحن نعلم أن القاهرة وحدها كانت تسكنها في نفس الآونة ما بين عشرة ملايين وخمسة عشر مليونا من البشر، أما اليوم فنحن نقارب الثلاثة ملايين وتزدحم في القاهرة وقت الذروة في زماننا هذا ثلاثون مليونا من البشر، يال الهول!
مليون من البشر .. خلال خمسين عاما تتراكم عليهم عائدات الحديد والسمك والنحاس والفوسفات والذهب والملح والتربة النادرة والبترول ...
لو أخذنا في توقع الانجازات المفترضة من تلك العائدات  لكانت هائلة .. لكنّ واقعنا يقول غير ذلك ، فالبنية التحية متواضعة للغاية والمؤسسات الوطنية  الأمنية والإدارية دون المستوى ومراكز البحوث لدينا صفر يتربع في خانة كبرى ، والمصانع والمستشفيات والجامعات .. تصنف تحت حرف النفي الأكبر ..
و إذا ما سألنا عن  السر في عدم استفادتنا من ثروتنا خلال هذه الفترة الطويلة، فسنجد أننا متفقون جميعا على حصر تلك الأسباب وفي تأويلها وتفسيرها ... إنه الفساد وغياب الضمير الوطني وما رافق ذلك من نهب وسلب وبطش بالممتلكات والموارد العامة .    هذه هي الحقيقة التي نقف اليوم في حصيلتها . فهل في الأفق من بصيص أمل ؟ وما هي التحديات الحقيقية التي تقف في وجهتنا نحو التقدم والتطور ؟
نحن مطالبون بالتفاؤل دائما فقدوتنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "استعن بالله ولا تعجزن"، وكان " لا يعتاف .. إلا أنه يحب الفأل الحسن "، كان يمارس التفاؤل بين أصحابه ويطالبهم بارتياد آفاقه وفي الأثر: "تفاءلوا بالخير تجدوه" ، لأن التفاؤل إذا غاب عن المرء اسودّت الدنيا في عينيه وشلت قدرته على العطاء وبذل الجهد وخَرَّ صريعا أمام التحديات التي يجب عليه أن يُريَها منه العزم والحزم على تجاوزها ودحرها ..
ومع ذلك يبقى من الضروري للتفاؤل أن يجد  أرضية ينطلق منها ويستند إليها  وفي غياب تلك الأرضية يكون التفاؤل مضيعة للوقت وتخديرا للجهد .. فهل لنا في العهد الجديد مصدر تفاؤل ؟ وما هي الأسس التي ينبني عليها تفاؤلنا ذلك ؟
ثمة معطيات تلاحقت في بداية هذا العهد ولا زالت متواصلة يجب أن ننطلق منها في بناء شعورنا بالتفاؤل ، فلقد بدأ العهد الجديد مع فجر السادس من أغسطس المجيد في تدشين مسارات جديدة لم تألفها بلادنا أبدا في الفترات الماضية ، لقد بدأت مع بداية العهد الجديد ملاحقة الفساد في أوكاره وهي ملاحقة حقيقية أصبحت مشاهدة ومحسوسة ، ونحن نعلم أن الفساد لم يكن موجودا فقط بل كان ممنهجا وموصى به على أعلى المستويات ، ولكثيرا ما تعاطت الدولة مع المفسدين باعتبارهم أبطالا فعملت على ترقيتهم لمناصب أعلى أو فرّغتهم في أحسن الأحوال  للتمتع بما احتوَشُوا من المال العام ..
ومع العهد الجديد اندفعت القيادة نحو أحياء الصفيح تتلمس مشاكلهم وتتحسس آلامهم وتتعاطى مع همومهم ، فدخل الرئيس لأول مرة "الكبات" وشاهد البؤس والحرمان في بيوت الصفيح ، وتردد على الضعفاء في مساكنهم ، ودخل على المرضى في غرف صناعة الموت ( مستشفياتنا الوطنية ) وشاهد بأم عينيه كيف يعاني المرضى آلام الرحيل ومشاكل الانتقال القسري نحو الدار الأخرى ...    فجاءت البشرى سريعا وكان التدخل عاجلا فقررت الدولة التدخل للمساعدة فاستوردت الأجهزة الحديثة الغالية ، والأدوية لتخفيف المعاناة ولمنازلة الموت في غرف طالما كان هو المنتصر الأوحد فيها ..
ومع العهد الجديد انطلقت الحريات العامة وأفسح المجال رحبا أمام التجمع والتكتل والتحزب وامتد إشعاع الكلمة الحرة في اتجاهاتها الطبيعية ، فانتشرت المواقع وامتلأت الممرات بالجرائد والمجلات ..
ومع العهد الجديد انطلقت مشاريع التعمير في أرجاء الوطن عبر خطط مدروسة تسعى لمد جسور التلاقي بين كافة مكونات الوطن عبر طرق وسكك حديدية حديثة ستملأ الفضاء يوما بصخب المصانع وأزيز المحركات ، ومع العهد الجديد اختارت القيادة أن تقف مع شعبها في تأييده لقضاياه الكبرى فانحازت إليه راغبة فيه عن اليهود والعلاقات المشينة التي لجأ إليها النظام الماضي بغية  تطويل عمره أكثر،  يوم أن جاءنا بأحفاد القردة والخنازير .. وما أشجعها من خطوة ..لم تجد من يقدرها حق قدرها في خضم صراع المصالح الفردية وفي غياب التقويم الموضوعي .. !
ومع العهد الجديد تحررت علاقاتنا الوطنية من ربقة التقليد ، ووضعت فلسفة لسياسة  الدولة في الداخل والخارج تتماشى مع مصالحها وفي خدمة أهدافها الحقيقية دون أن توجه أو تكون خاضعة لإملاءات القوى الكبرى أو أصحاب المصالح والمآرب الخاصة .
ومع العهد الجديد أعلن عن قرب انطلاقة إذاعة القرآن الكريم التي ستقول للذين يُسوّقون بعض الأفكار الغَرِيبة باسم الدين إننا أولى بالتحدث باسم الدين منهم  ، ومع العهد الجديد استعادت شنقيط مجدها المفقود منذ زمن عبر استعادتها لهيبتها الدينية فكان صوت مصحف شنقيط يدوي في أذن كل موريتاني بالآية الكريمة "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" وكأن المشروع يقول للذين يزايدون علينا باسم الدين لستم للدين أقرب منا فهو ديننا ودين أجدادنا وآبائنا وهو ملجأنا يوم التنادي وها نحن نحيي الدعوة إليه رسميا عبر الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة .
نعم كانت هذه ولا زالت تشكل إرهاصات حقيقية تَعِد بتغيير فعال سيكتمل بتغيير حقيقي في سلوك الفرد الموريتاني الذي بدأت إعادة تنشئته من جديد ، نعم فلقد  بدأ يربى على أن المرء عليه أن يقتنع أن "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" وأنه سيأخذ نصيبه غير منقوص على قدر بذله وجهده "على قدر أهل العزم تأتي العزائم" فعلى الجميع أن ينطلق في عملية البناء مشمرا عن ساعده باذلا جهده ويوم الحصاد سيجد المرء "ما قدمت يداه" ومن جد وجد ومن زرع حصد .
وإذا كان المستقبل في ضوء المعطيات الراهنة من درء للفساد وضرب على أيدي المفسدين وتنفيذ للمشاريع واعدا فإن الأمر لا ينبغي أن يستسهل كل السهولة ، فثمة تحديات كبرى على الأمة الموريتانية أن تجابهها بجهود جمعية شاملة لا تستثني أحدا ، و في إطار مجابهة تلك التحديات ستتحدد معركة البناء الحقيقي ، لقد أصبح شبه مؤكد للجميع أن ثمة اكتشافات هائلة بدأت الأرض الموريتانية تعد من خلالها بخيرات هائلة إن تم ترشيدها فستعرف البلاد نقلة نوعية تدفع بها إلى مصاف الدول المنتجة والغنية حقا .. وعلينا أن نكون على مستوى التحديات فنعمل على تعزيز الصفوف ورصها وأن ندرك أن استغلال ثرواتنا يكشفنا أكثر للأعداء الذين يتربصون بنا الدوائر، ولا بد أن نعمل جميعا على سد كل الثغرات التي يمكن أن يتسلل منها الشيطان لأذيتنا في اجتماعنا ووحدتنا وفي استقرارنا وفي الاستفادة من ثرواتنا الطبيعية ، ولا بد أن ندرك أن الديمقراطية لا تعني الفوضى وغياب الوعي الوطني ، بل تعني استثمار الجهود في معركة الوطن دون استثناء ، لكن الأيام أثبتت أن الديمقراطية لا تُستوعب إلا من طرف الشعوب المتحضرة الواعية ، فلكم استغلت الديمقراطية في عالمنا الثالث وفي قارتنا السمراء بالتحديد لتنمية الفساد ورعايته ، ولكم حولت واقع شعوب هذه القارة إلى جحيم لا يطاق تستصغر في حقه كل جرائم الاستبداد ومآسي الظلم وويلاته عبر التاريخ ، ولكم خلفت لدى كثير من العالم حولنا هذه الكلمة المعسولة من ويلات وحروب ومآس .. يجب أن نأخذ منها العبرة ..
ذلك أن الديمقراطية ليست عصا سحرية تغير واقع المجتمعات بين عشية وضحاها ، كلا .. فالديمقراطية هي آخر ما توصل إليه العقل البشري المتقدم من نظم الحكم وإدارة الشأن العام ، ولا يستطيع العقل المتخلف استيعاب أرقى النظريات العلمية الحديثة دون أن تكتمل لديه الشروط المطلوبة ، فالديمقراطية نظرية أنتجها العقل المتمدن الواعي شأنها شأن أي نظرية علمية أخرى ، فلا بد أن نحصل لها الشروط الضرورية لاستثمارها وللاستفادة منها وفي مقدمة تلك الشروط أن نحصل ثقافة الأخذ والعطاء، ثقافة الاختلاف  والتنوع في ظل الاستقرار وستكون الديمقراطية حينئذ تعني إدارة ذلك التنوع وتوظيف ذلك الاختلاف لخدمة الوطن .
ويبقى التحدي الأكبر في مواجهة الإرهاب وخطره على السلم الاجتماعي ، ومعركة الإرهاب يجب أن تكون معركة الجميع ، يشارك فيها الفقهاء والعلماء والمثقفون ورجال الأعمال .. وهي معركة الأحزاب خاصة حيث يجب أن توضع برامج توعية تعمل على نشر الوعي تجاه هذه القضية الخطيرة يتحدث فيها رؤساء الأحزاب بشكل مستمر والمثقفون والأساتذة إلى الشباب وسائر الشعب يوضحون لهم الفرق بين الحق والباطل وخطورة ركوب الهوى وتتبع حظوظ النفس والجهل بالنصوص الشرعية وما يترتب على ذلك الجهل من اجتهادات باطلة تنشر الفساد في الأرض والله سبحانه وتعالى لا يحب المفسدين  .
ويجب أن تكون جهود مكافحة الإرهاب على كافة المستويات دون أن نحصرها في المستوى الأمني ، فلا بد أن توظف الكلمة الطيبة والصداقة الخاصة والعلاقات الفردية والجماعية لحماية موريتانيا ولأمنها .. وأن تستغل كل المناسبات لتوضيح ما التبس من الأمور الشرعية والثقافية التي تختلط على الناس فتبدل الحقائق لديهم وتغير الألوان أمام أعينهم ، وفي هذا الإطار أيضا يجب أن تقترب الدولة من الشباب لتتحسس مشاكله وتتعرف على الفجوات التي تؤتى منها قناعاته .
وفي هذا الصدد أجدني مضطرا لإعادة مطالبة الجهات المسؤولة في الدولة وحزبها أن تعمل على بناء فكر أيديولوجي يعمل على تنمية الحس الوطني لدى الشبيبة ويشعرها بضرورة استثمار طاقاتها الشبابية في الفكرة التي تلتئم حولها تلك الإيديولوجيا ، ولقد بدأ عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز بأعمال جبارة تندرج في إطار الثورات الإديولوجية ضد الفساد والظلم والاستبداد والتهميش ، وهي أمور يبدو أن الحزب الحاكم يتعاطى معها بفتور كبير لست أدري مصدره بالضبط . كما أن الفكرة الاديولوجية تمد الشبيبة الوطنية بالوعي اللازم لتحصينها من الانجراف وراء الجهات التي تستغل الشباب في الترويج للفكر الإرهابي  ، وهو فكر ضعيف إن وجد ما يوضحه على حقيقته ، فالإرهابيون ليس لديهم مشروع حضاري إنما هم لصوص وقتلة ومحاربون .. لكنهم يستغلون العواطف الدينية للشباب الذين  لا يمتلكون القدرة على فهم واستيعاب مخططات الإرهابيين فيستحوذون على العقول  الناشئة الضعيفة ليمارسوا إعادة توجيهها وشحنها بطاقات سلبية هدامة .
إنني أكتب هذه الأحرف ليس للتسلي ولا للمزايدة بل لأنني  أشاهد بلدي اليوم أكثر من أي وقت مضى على مفترق طرق .. إما أن يمضي قدما نحو البناء والنهوض والذي بدأت بوادره في واقعنا الراهن واضحة ، وإما أن ينزلق لا قدر الله نحو الهاوية تحت مطارق التخلف والظلم والإرهاب وصراع إرادات المصالح ، وفي اعتقادي أن هذا هو أضعف الإيمان ..

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ،،،

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : يحيى البيضاوي