إ المبحة الإلهية : الدلالة والمفهوم* ~ نبيض اليراع

الأحد، 17 يناير 2016

المبحة الإلهية : الدلالة والمفهوم*

الغاية من وجود البشر ،وكما أخبر عنها المولى سبحانه في محكم كتابه،  هي عبادة الله عز وجل ، ولقد ظل الإنسان يسعى بوعي، أو بغير وعي- أحيانا- لتحقيق هذه الغاية ؛ ذلك أن شعوره بالفراغ، جعل إحساسه بالعجز والضعف عميقا، وما فتئ يجد نفسه مضطرة لتلمس الكمال خارج ذاته القاصرة . 
 فهو حينما يعبد الحجر أو الشجر فإنما يعبده بحثا عن الاتصال بهذه القوة التي ما فتئ هذا الوجود منفعلا بها ، فرمز الكمال هوهو.. مهما ظهر لألباب أو حجبت عنه  عقول .. 
ولكن الذي يختلف في الأمر هو أسلوب التعبير عن هذا الشعور ، ولقد عبرت نصوص الوحي عن ذلك بوضوح على ألسنة الوثنيين أنفسِهم حيث قالوا عن علاقتهم بأصنامهم: (( مَا نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرِّبُوناَ إِلَى الله ِزُلْفَى )) .
وما انفكت المنن الإلهية تغمر هذا الكائن بعجيب النعم ؛ بدءً بنعمة الخلق والإيجاد وانتهاء بنعمة الهداية والإرشاد ، وحيث كانت بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام من أوفى النعم التي امتن الله بها على عباده ، فجاؤوا للبشرية بالنور والهدى ؛ فأوضحوا وبينوا وأرشدوا ونصحوا ، وبواسطتهم عرف الإنسان ربه عند ما عرف نفسه، وحدود قدراته وإمكانات قوته العقلية والفكرية ، وعن طريقهم تبينت الطرقُ إلى معرفة الله سبحانه وتعالى وما يسديه للبشرية من نعم لا تحصى ولا تعد (( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا )) وكلما تعمق الإنسان في هذه المعرفة كلما اتضحت له تلك الآلاء وامتلأت نفسه بمحبة الله ومهابته ...  وكيف لا ؟ والأنفس طبعت على محبة من أحسن إليها وهل ثمة إنعام أكثر من إنعام الله وإحسانه ؟؟؟
لهذا فمحبة الله تعالى مرتبطة بمعرفته سبحانه سلبا أو إيجابا، ولقد عبرت عن ذلك بوضوح أستاذة المحبين رابعة العدوية بمقولتها الشهيرة: "من ذاق طعم المعرفة وجد فيه طعم المحبة"([1]) بلى .. فكلما نمت هذه المحبة وازدادت تحولت في داخل أعماق النفس إلى قوة هوجاء تلهث وراء مرضاة الله عز وجل تبحث عنها بأي وسيلة وبأي ثمن ، فتهون الصعاب حينئذ، وتحلو الأقدار في سبيل العبادة ؛ وحينها يكون العارف وحسب لغة المحبين: "إذا ارتقى بالمعرفة إلى المحبة صارت الأقدار عنده حلاوة" ([2]) بل إن العبادة كلها  تكون ضربا من المتعة تخرس الألسن عن وصفها وتعجز الفهوم عن تقديرها حق قدرها يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله :  " فما بعد إدراك المحبة مقام، إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها "([3])  ويقول عنها بن تيمية رحمه الله:  " هي أصل كل عمل ديني "([4]) .
فالمحبة إذن تمثل أساسا عظيما من الأسس القويمة لهذا الدين يستدعي منا وقفة متأملة ونظرة عميقة فاحصة حتى يتسنى لنا فهم هذا الأساس الفهم الصحيح ، فما هي المحبة لغة واصطلاحا ؟ وما هي طبيعة علاقتها وارتباطها بالشرع ؟ وكيف يمكن أن نوظف هذا المفهوم توظيفا سليما إيجابيا يخدم أهداف الأمم ويسعى في مصالح المجتمعات ؟
المحبة في اللغة اسم للحب ، والحب نقيض البغض ([5]) وهو: ميل القلب إلى ما يجد فيه إنسا أو لذة أو إمتاعا ([6]) . والحب يختلف عن الرغبة ، فالرغبة حالة آنية تتلاشى بمجرد أن تشبع بينما الحب نزوع دائم يتجلى في رغبات متتالية ومتوانية ([7]) ، ويمكن تصنيف الحب إلى صنفين اثنين حب أخذ وحب عطاء ؛ ففي الأول يعتقد المحب أن المحبوب ملكا له لا يشاركه فيه غيره وحينئذ يكون حبُّه حبَّ أخذٍ أو استئثار ويُمَثَّلُ لهذا الحب بحب الطفل لأمه ، أما إذا وهب المحبُّ نفسَه للمحبوب وُصِف حبُّه حينئذٍ بحب عَطاء والعطاء أسمى من الأخذ ، ففي الحديث الشريف : ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) ([8]) .  وذكر ابن القيم - رحمه الله-  أن للمحبة ستين اسما كلها ألفاظا مترادفة ؛ كالحب والعلاقة والوَجد والعشق والجوى والشجو والشوق ... إلى غير ذلك ([9]). وحاول - رحمه الله-  أن يأتي باشتقاق لِلَفْظةِ المحبّة فأتى بأقوال كثيرة في ذلك الصدد منها قوله : " قيل إن المحبة أصلها الصفا لأن العرب تقول لبياض الأسنان ونضارتها حَبَبُ الأسنان ، وقيل هي مشتقة من اللزوم والثبات ومنه قول القائل أَحَبَّ البعيرُ إذا بَرَكَ فلم يقم ... " ([10]).
 المحبة في الاصطلاح :
  وفي الاصطلاح تتباين تعاريف المحبة وتختلف باختلاف أحوال المحبين أنفسهم كما أن من تصدى لتلك التعاريف يجد نفسه  ضحية لتعاريف غير مستقرة على نمط واحد ، تتجاذبها المقامات وتتصارع على مستوياتها الأحوال ،سواء أكانت مقاربتنا للمفهوم داخلية أي عند المحبين أنفسهم أو خارجية لدى المهتمين بشأن المحبة معرفيا؛ فلو أخذنا إطلالة على الموضوع من خارجه لكان أرضى تعريف للمحبة هو ذلك القائل بأنها عبارة عن : " بهجة وليدة كمال معرفةٍ لله يشعر بها العارفون من المتصوفة "([11]) وهو تعريف يحاول جمع شتات التعريفات المختلفة التي نطق بها المحبون من الزهاد والمتصوفة حيث لا يعبر كل تعريف إلا عن الحالة الآنية التي يشعر بها ذلك المحب، وهي حالة شعورية تختلف من شخص لآخر . والمحبة لدى الفقهاء هي : " الرغبة في التقرب إلى الله "([12]) وهو تعريف يضع في الاعتبار الجدل الذي احتدم فترة من الزمن بين أهل هذا الفن الذين عرفوا به ( الزهاد والمتصوفة ) وبين من رفع عصا الإنكار في أوجههم من المتكلمين ، وبعض الفرق الذين رفضوا الانصياع لسلطان الوجدان على حساب العقل ، فمن هذه الأرضية الملغمة يقف هذا التعريف حذرا من تجاذب هذين التيارين مقرا بوجود المحبة من حيث المبدأ لكنه يجعلها محصورة في الرغبة التي تعني الميل والاندفاع إلى كل ما من شأنه أن يقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، كما يلاحظ من هذا التعريف أيضا نفوره من كلما يمكن أن نستشف منه ولو بشكل ضمني الإشارة إلى المعاني النفسية والعاطفية التي كثيرا ما يعبر عنها بعضُ المحبين من أهل المقامات والأحوال ، وتظل صيحات المتكلمين الإنكارية في رفض هذه المعاني صريحة وواضحة وضوح الشمس في قائلة النهار إذ ينكرون وجود هذه المعاني أصلا ويرفضون أن تكون محبة الله تتعلق بشيء أكثر من طاعته وعبادته ، وأن محبة الله لعباده لا تعني سوى إرادته سبحانه وتعالى الإحسان إليهم وموالاتهم([13]) .
ولعل أول من خاض هذا الجدل وأنكر هذه المعاني هو الجهم بن صفوان وتبعته جماعة بعضهم يوافقه في أصول مذهبه وبعضهم يخالفه ، لكنهم يوافقونه في صرف هذه الألفاظ عن دلالتها المتبادرة إلى الذهن عكس ما هو شائع ومستعمل وظاهر من دلالتها في كلام العرب وأساليب التخاطب بينهم ؛ فنجد مثلا المعتزلة يعتقدون أن مظاهر الحب وكما تظهر عند المتصوفة زائفة إذ هم يحاولون خلع الصور التي تعلق بالنفس في علاقتها بالصور الجميلة على ذات الجلالة، وهذا أمر يرونه في غاية السفه والضلال يقول الإمام الزمخشري في كَشّافه : " إذا رأيت من يذكر محبة الله ويصفق بيديه مع ذكره ويطرب ويَنْعَرُ ويَصْعَقُ فلا تشك في أنه لا يعرف ما الله ولا يدري ما محبة الله ، وما تصفيقه ونعرته وصعقته إلا أنه تصور في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله ودعارته "([14]) ، فمحبة الله إذن عند هؤلاء لفظ مجازي يعني طاعته في ما أمر والانتهاء عما عنه نهى وزجر.
ويعتقد البعض ممن استساغ هذا الطرح أن مفهوم المحبة شأنه في ذلك شأن كافة مفاهيم الزهد وتطبيقاتها لدى المتصوفة بضاعة مستوردة من خارج الحدود الإسلامية ، أو على الأقل تم سبيها واستيرادها من البلاد المفتوحة ، ولا يخفى أن هذا الطرح أبعد ما يكون عن الإنصاف والموضوعية ؛ فنصوص الوحي من كتاب وسنة صريحة وواضحة الدلالة في إثبات محبة الله لعباده ومحبة عباده له؛ فنجد مثلا في القرآن الكريم قوله تعالى : (( وأقسطوا إن الله يحب المقسطين )) وقوله : ( ( .. فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ))  وقوله : (( قل إن كنتم تحبون الله فتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم )) إلى غير ذلك من الآيات الصرحية . ونجد في السنة النبوية طائفة من الأحاديث التي تثبت مفهوم المحبة بشكل صريح وواضح لا جدال فيه من ذلك قل النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( ... أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ) .
ويعلق الإمام أبو حامد الغزالي على هذه الآيات والأحاديث الشريفة قائلا : إن لفظة الحب هنا صريحة  في إثبات الحب لله ولرسوله، ولا يمكن أن تفسر بالطاعة لأن الطاعة تبع للحب وثمرة من ثمراته ([15]) . ومن الملاحظ هنا أيضا أن نصوص القرآن الكريم لم تكتف بإقرار وجود الحب من حيث المبدأ بل تجاوزته إلى وجود التفاوت فيه بدليل وجود صيغة التفضيل الواردة في قوله تعالى : ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) .
والجدير بالذكر أن هذا المفهوم تبلور في مدرسة البصرة على يد جماعة من الزهاد في نهايات القرن الثاني وبدايات القرن الثالث الهجري أطلق عليهم أبو داود السجستاني ( ت 275هـ ) تسمية الزنادقة الزهاد ([16]) وهو وصف يقرأ منه موقف السجستاني المبدئي منهم ، وأقل ما يقال عنه إنه متحيز و غير موضوعي . والذي يبدو وكأنه مسلم به أن الحب الإلهي مولود شرعي في البيئة الإسلامية بدليل النصوص السابقة ، يقول بعض الباحثين : "لا مجال للقول بأن نظرية الحب الإلهي نظرية ليست إسلامية أو أنها لا سند لها من القرآن والحديث أو أنها أمر مستحدث عند المسلمين بعد ما تأثروا بأصحاب الديانات الأخرى كالمسيحية والمانوية " ([17]).
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح : لما ذا تركز الزهد في هذه الفترة من تاريخ الأمة الإسلامية حول مفهوم المحبة أكثر من ذي قبل ؟
لقد تبين لنا ، من خلال النصوص السالفة ، أن الحب كمصطلح تحدد دلالته أساليب التخاطب في لغة العرب لا يمكن وصفه بأنه طارئ مستحدث ،وإنما الجديد فيه هو وضعه في قالب نظري باعتباره مفهوما فلسفيا ومعرفيا يُقَدَّم من خلاله تفسير للوجود الإنساني ولعلاقة هذا الوجود بالله وبالكون بشكل عام ، وثمة أسباب اجتماعية واقتصادية ومعرفية ساعدت على وجود هذا التحول في فكر وثقافة الزهاد منها :
1.   اتساع رقعة الدولة الإسلامية التي أصبحت تضم ديانات وثقافات متعددة وما صاحب ذلك التوسع من رخاء اقتصادي إثر تدفق الغنائم وكثرة عائدات الفتوح على المجتمع المسلم ؛ حيث انهمك بعض المسلمين انهماكا شديدا في الاستمتاع باللذات وإنفاق الوقت فيها ، الأمر الذي حزّ في نفس البعض الآخر من المؤمنين وجعلهم يولون ظهورهم للدنيا وهي مقبلة راغبين في الآجلة على حساب العاجلة، خصوصا وأن مظاهر الترف والبذخ قد انعكست سلبا على الحياة الاجتماعية حيث استشرى الفساد الأخلاقي وانتشرت أندية الشراب واللهو والمجون .
2.    لكن السبب المعرفي يظل – في نظري – أهم الأسباب لعلاقته بالنصوص القرآنية حيث نجد أسماء الله تعالى وصفاته الواردة في القرآن الكريم يمكن أن تصنف إلى صنفين اثنين صفات جلال وصفات رحمة؛ تندرج تحت الأولى صفات لله سبحانه وتعالى توحي بعظمته سبحانه وتذكر المرء بهيبته وكبريائه ويترك وقعها في النفس المؤمنة جلال الله والخوف الشديد منه من ذلك مثلا : العزيز ، الجبار ، المنتقم ، القهار ، شديد البطش ، سريع الحساب ... ، وفي الصنف الثاني نجد صفات أخرى لله تعالى تصف رب السماوات والأرض  بكمال الرحمة وعظيم الإحسان والحب لعباده منها: الغفور ، الودود، المنعم ، المتفضل ، الوهاب ، الرزاق .. فكانت استجابة الرعيل الأول لصفات الجلال أعمق من غيرها وكان الخوف منها مهيمنا على سلوكهم العبادي وباعثا لهم على الطاعة وكانت هذه الأرضية خصبة لانتشار الزهد وذيوع مفاهيمه ويمكن أن نحدد المجال الزمني لشيوع هذه الظاهرة وانتشار مفاهيمها بالعصر الأموي تقريبا، ولقد أنتجت هذه الفترة زهادا علماء ومجاهدين من أمثال سعيد بن جبير والحسن البصري وشراحيل الشعبي ...
أما الصنف الثاني من الصفات فقد بدأ يستقطب المسلمين الزهاد خصوصا في مطلع العهد العباسي ولعل السر في ذلك التوجه يعود إلى التأثر بثقافات الشعوب التي تم فتحها تلك الثقافات التي بدأت تعيش في العصر الأموي أجواء من الحرية لا عهد لها بها ، حيث استعادت الإحساس بالذات بعد مرحلة الكمون والذهول التي أصابتها جراء قوة الفتح الكاسحة، كما أن دور الترجمات كان فعالا في هذا الصدد فكل ذلك جعل الزهد يعيش مرحلة تحول حقيقي نحو تصور معرفي وفلسفي يمكن نعتها بالإرهاصات الأولى لما سيكون عليه التصوف بشكل عام فيما بعد ؛ حيث تميزت هذه المرحلة بالتوسع في مفهوم المحبة وبدأت تظهر كنظرية متكاملة انطلقت خطواتها الأولى مع رابعة العدوية ورباح بن عمر القيسي مرورا بالكرخي والبسطامي والحسين بن منصور الحلاج لتكتمل حبكة هذه النظرية مع محي الدين بن عربي ، ولا بد أن أسجل هنا أن هذين الخطابين قد تعايشا معا  ولكن كتابات المؤرخين ركزت على الخطاب الأخير متمثلا في الرؤية المستجدة للمحبة في عالم التصوف لحاجة في نفس يعقوب .
كيف كان مفهوم المحبة في هذه المرحلة ؟
لقد عرّف القوم هذا المصطلح بتعريفات كثيرة تختلف طورا وتتباين أطوارا أخرى ومرد ذلك أن كل تعريف يحاول أن يقدم صورة للحال الذي يعيشه صاحب المقام  فنجد أبا عبد الله القرشي يحدد هذا المصطلح قائلا : " حقيقة المحبة أن تهب كُلَّكَ مَن أحببتَ فلا يبقَى لكَ مِنكَ شَيءٌ "  ، وهذا المقام يسمونه مقام الفناء ، وهو يعني أن المحبَّ يفنى عن ذاته حتى لا يشعر بأي وجود إلا وجود المحبوب ، فالمحبوب في هذه الحالة قد استغرق القلب استغراقا كليا ، ولم يعد المحب حينها يفكر إلا في سبيل مرضاة المحبوب والتقرب إليه . وقد سأل الزجاجُ الإمامَ الجنيدَ عن المحبة ، فقال له : " أتريد الإشارة ؟ قال : لا ، قال : أتريد الدعوى ؟ قال : لا ،قال : فأي شيء تريد ؟ قال : عين المحبة ، قال : أن تحب ما يحبه الله تعالى في عباده وتكره ما يكره الله تعالى في عباده "([18])  ، ولقد عبر الشبلي بوضوح عن مقام الفناء هذا أثناء تعريفه للمحبة حيث قال : " سميت المحبة محبة لأنها تمحو من القلب كلما سوى المحبوب "([19]) ، ويروى عن عبد الواحد بن زيد أنه مرّ برجل قائم في الثلج فتعجب منه وقال له : أما تجد البرد ؟ فرد عليه قائلا : " من شغله حب الله لم يجد البرد " ، ويقول ابن القيم : " حب المحبوب الأعلى لا يجتمع في قلب مع عشق الصور "([20]) .
فمقام المحبة إذن مقام نفيس يتبارى القوم في سبيل الوصول إليه ، يقول يحيى بن معاذ : " مثقال خردلة من الحب أحبّ إليّ من عبادة سبعين سنة بلا حب "([21]) .
وينسجم هذا الطرح ، إلى حد كبير ، مع نصوص الوحي ، حيث وردت أحاديث كثيرة عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم تحث على الحب وتدعو إليه كما مر بنا آنفا ، وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم : ( اللهم  ارزقني حبك وحب من أحبك واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد ) ([22]) ، وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال  يا رسول الله : متى الساعة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( ما أعددت لها ؟ ) فقال : ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المرء مع من أحب ) قال أنس بن مالك رضي الله عنه - راوي هذا الحديث - فما رأيت المسلمين فرحوا بالإسلام فرحهم بشيء من ذلك ..! ([23]) .
أو ليست هذه المحبة هي نفسها المعنية بالحديث الآخر : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ؟؟ ولقد فهم الصحابة رضوان الله عليه المقصود بالحديث  " المرء مع من أحب" وفرحوا به غاية الفرح ، وهم الذين كانوا يعيشون تربية متوازية بين الخوف والحب ؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يخوفهم من الله تعالى وعقابه حتى كأنهم يرون النار رأي العين ، ويرغبهم في الجنة وما فيها من نعيم حتى كأنهم يرونها رأي العين كما في حديث معاذ لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما . وفرح أولئك المؤمنون بهذا الحديث له ما يبرره ذلك أن أسمى ما يفكر فيه المرء أن يكون مع أحبائه ممن يتوقع منهم المؤازرة والمؤنسة في أيام الشدائد والمحن أحرى أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم ووفده الكريم يوم يعطى المقام المحمود ويقال له اشفع تشفع واسأل تعطه ...! فأي شيء بعد هذا يطمح إليه المؤمن ..!! .
ولقد تناول الإمام أبو حامد الغزالي الأسباب التي تستدعي وجود المحبة بالبحث والتدقيق ووجد أنها تنحصر في خمسة أسباب هي :  
-       محبة وجود : أي أن الإنسان يحب أن يظل موجودا وينفر نفرا شديدا من كل ما يؤثر في وجوده فكل إنسان يخاف من أي شيء يعتقد أنه سينتهي به إلى الفناء أو اللا وجود .
-       محبة من يرجع إليه دوام الوجود : أي أنه يحب كل الأمور التي يرى أنها سببا في دوام بقائه ، كأجهزة جسمه من تنفس ومعدة وأعضاء جسده ...
-       محبة المحسن : أي أن الإنسان يحب من أحسن إليه .
-       محبة الجميل لذاته : أي أن المرء يحب الجمال لذاته، ولو لم تكن له منه  منفعة  فهو يتلذذ بالمناظر الخضراء و خرير المياه في الجداول حتى ولو لم تكن  في ملكه أوليس في وسعه أن يطالها، ويستحسن الصور المستملحة والأجسام والهيئات الجميلة .. ولا شك أن هذه المحبة تعظم وتتضاعف لو ارتبطت بمنفعة.
-       محبة مناسبة : أي أن من عادة الإنسان أن يحب شريكه، وأنيسه، وذوي قرابته وسميه ، ومن تكون بينه وبينه مناسبة أو مشاكلة في الخلق أو القيم أو المبادئ أو الهوى ..
فهذه الأسباب الخمسة إن توفر واحد منها في شيء فقد حصل على سبب يستدعي محبته ، أحرى إن اجتمعت كلها في واحد وما اجتمعت قط في غير الله تعالى ؛ لأن اجتماعها يعني الكمال ، والكمال من خصائصه سبحانه وتعالى ؛ فهو الذي يرجع إليه وجودنا وهو الذي بفضله يتم دوام وجودنا وبقائه ، وهو المحسن بالآلاء والنعم التي لا تعد ولا تحصى ، وهو الجميل في ذاته سبحانه وتعالى : ( إن الله جميل ويحب كل جميل )) ، وهو الذي أمدّ الإنسان بمناسبة منه ( ليس كمثله شيء ) استحق الإنسانُ من خلالها الخلافةَ في الأرض  ( إني جاعل في الأرض خليفة ) ، ولقد تمثلت تلك المناسبة في قوله تعالى : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) وفي قوله : ( وإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) ، وتتخذ المناسبة أو المشاكلة صورا شتى فقد تتجلى في معنى ظاهرٍ للعقول كمناسبة الصبي للصبي في معنى الصبوة ، وقد تكون في معنى خفي  لا تدرك العقول حقيقتها وإن أحسّت بوجودها كالاتفاق الحاصل بين اثنين من غير ملاحظة جمال أو طمع في مال ولقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله : ( الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ) فالتعارف هنا هو التناسب ، ولهذا السبب أي المناسبة الخفية التي لا ترجع إلى المشاكلة وجدت محبة الله في القلوب . ويعتقد الغزالي – رحمه الله- أن الكف عن الخوض في هذا المعنى أولى وأجدر فكم من عقول ضلت سبيلها في فهمه فسقطت في مستنقع التشبيه وارتكست إلى عالم المادة ورفضت الانفلات من صورها وتشكلاتها ، وكم من عقول خلطت ومالت إلى الحلول أو الاتحاد فحادت عن صوب القصد ، فيقول رحمه الله : " وهذا موضع يجب قبض عنان القلم فيه ، فقد انقسم الناس فيه إلى قاصرين مالوا إلى التشبيه الظاهر ، وإلى غالين مسرفين جاوزوا حد المناسبة إلى الاتحاد و الحلول حتى قال بعضهم أنا الحق "([24]) .
ولكن.. إذا سلمنا بولادة نظرية المحبة الإلهية في البيئة الإسلامية فهل يمكن أن نسلم في المقابل بأنها بلغت مرحلة النضج والكمال دون أن تتأثر بمؤثرات خارجية ؟
لا شك أن نظرية المحبة بدأت تخلط خلطا عظيما أقل ما يقال عنه إنه غريب على الفهم الإسلامي المضبوط بالضوابط الشرعية التي شكلت منطلقها الأول حتى أصبحت تشترك مع عقائد أخرى لا علاقة لها بالبيئة الإسلامية  في تصوراتها وتوهماتها كما أشار إلى ذلك الإمام أبو حامد الغزالي في مقولته الآنفة الذكر ، فلم تكن نظريتي الحلول والاتحاد إلا سطو مفتضح على تصورات العقائد الأجنبية من مسيحية ومانوية وبوذية تلك العقائد التي وجدت في البيئة الإسلامية متنفسا للدعاية والنشر لم تكن تجده من قبل حيث عملت على نشر خليط من الفلسفات القديمة والحكم المتقادمة ، مستغلة هامش الحرية الكبير الذي أوجده الحكم الإسلامي لمثلها .
ومن هنا فإن الاعتقاد السائد هو أن نظرية المحبة تطورت في هذا المناخ الداكن وتأثرت به تأثرا شديدا ، ولقد كانت البدايات الأولى لذلك الانفلات قد ظهرت مع شطح المحبين كشطح رابعة العدوية  ورباح  بن عمر القيسي وأضرابهما من أرباب الأحوال والمقامات وإن كانت بدايات لا تخلو من صدق وإيمان وحسن نية لكنها ما لبثت أن انجرت إلى شطح مغلق يدعى مضامين خاصة كما هو الحال مع الحسين بن منصور الحلاج وبن عربي وغيرهما ، فواضح أن تلك البدايات لم تكن موفقة إلى حد كبير حيث بدأت تطرح طرحا غير مألوف على الأقل لدى السابقة من الأصحاب والمهاجرين والتابعين من ذلك مثلا أن رابعة كانت تصر على أنها تعبد الله لا شوقا إلى جنته ولا خوفا من ناره ([25]) ، وهذا القول لا ينطبق مع الهدي القرآني الذي يقول عن الصالحين الأخيار : (( كانوا يدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين )) ، ولقد تطور هذا الخطاب المتومج ليصل إلى المقولة المشهورة مع طيفور بن عيسى البسطامي الذي يقول فيها : " سبحاني ما أعظمني " وهو هنا ليس يمارس تقديسا لذاته كما يظن البعض بل ينطلق من كونه لا يرى إلا الحق ( الله سبحانه وتعالى ) حتى وهو ينظر في جسده وما هيته المتغيرة، وهذا عين الحلول والاتحاد  كما أتت به بعض العقائد الأخرى خصوصا المسيحية حيث يرون أن اللاهوت حل في الناسوت كما هو اعتقادهم في شخص عيسى عليه السلام، وهو ذات القول المعروف عن الحلاج: أنا الحق..!! وسيتسارع هذا الخطاب مع توقف النشاط الفكري في الحضارة الإسلامية نحو النهاية الكبرى تلك التي لم يعد المرء يفرق فيها بين الحجر وخالق الحجر  أو بين الإسلام وغير الإسلام كما يقول ابن الرومي :  " مسلم أنا ولكني نصراني وابراهمي وزاردشتي "([26]) .
يقول عمر فروخ عن التصوف والذي كانت نظرية المحبة تشكل بعده الحقيقي :  " الصوفية حركة بدأت زهدا وورعا ، ثم تطورت نظاما شديدا في العبادة ، ثم استقرت اتجاها نفسيا وعمليا ،بعيدا عن مجراها الأول وعن الإسلام في كثير من أوجهها المتطرفة "([27]) . ولكن المتتبع لمسار هذا الطرح ، عبر تاريخه الإسلامي ،يلاحظ أنه لم يكن الوجه الوحيد لحركة الزهد فلقد كانت ثمة أوجها أخرى نلحظ من كلامها نفورها الشديد من هذا الاتجاه ظلت مستمسكة بجادة الصواب  كما هو الحال عند الجنيد إذ يقول : الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول ( ص ) واتبع سنته ولزم طريقته " ([28]) . وكان ذو النون المصري يقول :  "من علامات المحبة في الله متابعة حبيب الله في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسننه "([29]).
وإذا كان التصوف بشكل عام ، ونظرية المحبة بشكل خاص ،قد آلت إلى ما آلت إليه من حلول  واتحاد وابتعدت عن مرجعيتها الإسلامية فإن كثيرا ممن ينتسب إلى هذا الاتجاه ظل مقيدا بتلك المرجعية ملتزما بهديها ، ومن الخطئ – حينئذ- تعميم الأحكام دون مراعاة لذلك .
وخلاصة القول أن المحبة في مفهومها المبسط والمقيد بنصوص الشرع مفهوم شرعي أصيل بل هي الأرضية التي ينبت  فيها الإيمان ويستقيم على سوقه  ، والأصل فيها وكما يقول ابن تيمية -رحمه الله –([30]) قول الله تعالى : ((  قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)) فهذه الآية أصل للمحبة الإلهية وخطة لترتيب المحبوبات في نفسية المؤمن حيث جمعت أهم شيء لدى النفس البشرية من ولد وأهل وعشيرة ومال وراحة ومتعة .. وجعلت ذلك كله دون محبة الله ورسوله ، فالمحبة إذن ومن هذا المنظور تنطوي على فاعلية وحركية إيجابية تعمل على تحريك شعور المؤمن وفكره بشكل واع نحو الأهداف الكبرى كما يتغياها الوحي من خلال الجهاد في مفهومه العام .

* كتب هذا الموضوع قبل عشر سنوات على الأقل لصالح بعض الجلسات الصالونية في المدينة المنورة .

([1])  عبد الرحمن الجوزي ،  صيد الخاطر ، ص :

([2])  نفس المرجع ، ص :102

([3])  الإمام الغزالي ، إحياء علوم الدين، دار الفكر 1356هـ ص : 5/40

([4])  مصطفى حلمي ، ابن تيمية والتصوف ، دار الدعوة الإسكندرية ص: 494

([5])  لسان العرب ، ص: 1/143

([6])  الصحاح في اللغة والعلوم ، ص : 1/229

([7])  جميل صليبا ، المعجم الفلسفي ، دار الكتاب اللبناني ، 1979، ص : 66

([8]

([9])  ابن القيم ، روضة المحبين ، ص : 16

([10])  نفس المرجع ، ص : 16

([11])  ابراهيم مدكور ، المعجم الفلسفي، ص : 66

([12])  ابن تيمية والتصوف ، مرجع سابق ، ص : 499

([13])  نفس المرجع ، ص : 499

([14])  الزمخشري ، الكشاف ، دار إحياء التراث العربي ، ص : 1/382

([15])  الإمام  أبو حامد الغزالي ، إحياء علوم الدين  ، ص : 5/

([16])  التصوف بين الحق والخلق ، مرجع سابق  ، ص : 60

([17])  نفس المرجع  ، ص :

([18])  أبو عبد الرحمن السلمي ، طبقات الصوفية  ، ص : 163

([19])  التصوف بين الحق والخلق  ، ص : 59

([20])  زاد ا لمعاد  ، ص :

([21])  إحياء علوم الدين   ، ص : 5/43

([22])  متفق عليه .

([23])  إحياء علوم الدين ، ص : 5/ 

([24])  إحياء علوم الدين ، ص : 5/ 

([25])  التصوف بين الحق والخلق  ، ص : 57 

([26])  عمر فروخ ، تاريخ الفكر العربي إلى أيام بن خلدون ، ص : 471-473 

([27])  نفس المرجع ، ص : 470 

([28])  طبقات الصوفية ، ص : 159 

([29])  طبقات الصوفية ، ص 22 



([30])  ابن تيمية والتصوف  ، ص : 151

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : يحيى البيضاوي