إ ثقافة الفاعل وثقافة المفعول ـ بقلم / أ.د . مختار الغوث ~ يراع ـ البيضاوي

الجمعة، 23 مارس 2018

ثقافة الفاعل وثقافة المفعول ـ بقلم / أ.د . مختار الغوث

أ.د. مختار الغوث

ما يُزوَّده المرء من ثقافة مجتمعه، وما يتزوده من قراءته، هو الذي يصوغ علاقاته الشعورية، ويسلك به وجهة في الحياة دون أخرى. وأكثر ما يؤثر فيه من هذين ما يساوق استعداده النفسي، فالجادُّ يعجبه ما يوافق جدَّه، كهذه الأبيات:
-تأخرت أستبقي الحياة، فلم أجـد لنفسي حياة مثل أن أتقدَّما
-بقدر الكد تُكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي
-سأحمل روحي على راحتي وألـقي بها في مـهـاوي الـردى
فإما حـياة تـسر الصـديـق وإمـا مــمات يغـيظ الـعـدا
-لا تحسب المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلـعق الصـبرا
-إذا غامرت في شـرف مروم فـلا تقـنع بما دون النـجـوم
والسلبي تعجبه المأثورات الدالة على القناعة، والصبر، والاستكانة، وانتظار تغير الحال، من غير أن يتعنى في تغييرها، ولكنه يُلْبِس ذلك ثوب الصبر، وقوة الإيمان. وأكثر ما يستبقي مما يسمع، وأحبُّه إليه هذه الأبيات:
-دع الأيــام تفـعـل مـا تـشـاء وطِبْ نفـسا إذا نـزل القضاء
-وإن ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غد عسى نكبات الدهر عنك تزول
-دع المقادير تجري في أعنَّتها ولا تبيتنَّ إلا خاليَ البال
ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
وما يشاكلها من المسليات التي تطيِّب خاطره وتقنعه بصحة ما يهوى. والمرء الذي يركن إلى التكيف مع كل واقع تعجبه مأثورات بعض الشعوب العربية: "إذا كان ليكْ حاجة عند القرد قل له ياسيدي"، "اربط الحمار مَطْرَح ما يعوز صاحبه". والأنِف الذي يأبى الضيم، وإعطاء الدنية في كرامته، ولا يقبل أنصاف الحلول تعجبه المأثورات الدالة على أن النفع يجب أن يكون من وراء الكرامة، وأن مرارة العواقب ما ينبغي أن تحمل على إتيان ما ينال منها، إذ كل مغنم ينال من الكرامة هو مغرم لا ينقضي، ومعرَّة لا تزول، وخسارة يتقاصر دونها كل نفع. ويكون ما وعى من تلك المأثورات مثبِّتا له على قراره، وعزاءً له فيما يجرُّ عليه، فضلا عن أنه هو الذي يصنعه، ويصنع علاقته بما يعدل عنه وما يعدل إليه. هكذا توجِّهُ المرءَ ثقافتُه، وتكوِّن معاييره القيمية، وتحدد مواقفه، وتتحكم فيه تحكما غير واع، لا يستطيع منه فكاكا إلا بعد عناء ورياضة كبيرين، وربما لا يتخلص منها بعد ذلك تخلصا تاما، إن قَدر على أن يتجاوز كثيرا منها، بعد أن يعيد صياغة نفسه، إما بالنقلة إلى مجتمع جديد، ينحلُّ فيه انحلالا ينشئه نشأة أخرى، وإما بالقراءة التي تستنبت في عقله وشعوره ثقافة غير ثقافته الأولى، تترتب عليها مشاعر وقيم جديدة مستمدة منها. وقد يظل -مع ذلك- قابلا للارتداد؛ لأن انتزاع ثقافة من عقل وشعور نبتت معهما كانتزاع الروح من البدن: فيه غير قليل من المشقة، وإن تفاوت الناس فيه كما يتفاوتون في شدة سكرات الموت، عند انتزاع الروح من البدن. ولعل سيدنا عمر -رضي الله عنه- قد فطن إلى ما تصنع ثقافة المأثورات في العقول، حين قال: "تعلموا العربية؛ فإنها تشبِّب العقل، وتزيد في المروءة". والمراد بالعربية الشعر، وبتشبيب القلوب صقلها وتقويتها واستثارتها. وقال أحد ملوك بني أمية لمؤدب أولاده: "روِّهم الشعر يمجدوا وينجدوا"؛ فقد كان الشعر في زمانه وزمان عمر وما قبلهما شعرَ فعْل وحركة، لا دعة فيه ولا استكانة؛ لأن الثقافة التي يعبر عنها كذلك كانت؛ فمن رواه اكتسب منه ثقافة تقوده إلى المجد والنجدة، والمروءة، وشباب العقل. وانظر -مصداقا لذلك- إلى قول الأُحيمر السعدي، وكان لصا من لصوص العرب، مفضلا أن يسرق على أن يسأل أو يقعد في بطالة؛ لأن السَّرَق فعل، والسؤال والبطالة قعود واستكانة:
وإني لأستحيي من الله أن أُرى أجرِّرُ حـبلاً ليـس فيه بعيرُ
وأن أسأل الوَغْدَ اللئيمَ بعيرَه وبُعْرانُ ربي في الفـلاة كثيرُ!
وقول عروة بن الورد، وكان صعلوكا من صعاليك الجاهلية، وقد لامته زوجه، فيما كان يأخذ به نفسه من الغزو والغارات:
أقلِّي عليَّ اللـوم، يا بنت منذر ونامي، فإن لم تشتهي النوم فاسهري
ذريني ونفسي، أمَّ حسان؛ إنني بها قـبل ألا أمـلك البـيع مشـتري
أحاديثَ تبقى والفتى غير خالد إذا هـو أمـسى هـامةً فـوق صـيِّر
ثم قسَّم لها الفقراء قسمين: فقير كسِل، تستعين به النساء في قضاء حاجاتهن؛ لأنه لا يفارق بيوت الحي، ينام عشاءً ثم يصبح ناعسا، يحت الحصى عن جنبه المتعفِّر؛ إذ ليست له همة تتصرف به في بلوغ ما هو خير مما رضي لنفسه، وإنما حسْبه أن يشبع بطنه، فهو يرتاد المجازر؛ ليجمع ما يُرمى به من الأسقاط، ويعدُّ أغنى لياليه الليلة التي يدعوه فيها صديق موسر إلى طعام. والآخر صعلوك حديد الفؤاد، جسور، كثير الغارات، لا يأمنه أعداؤه، وإن غاب عنهم، ولا يدرون من أي فج يخرج عليهم مغيرا، فهم يتطلعون إلى غارته تطلُّع أهل المسافر إلى أوبته. أما الأول فيقبِّحه ويصوره صورة تنفر منها النفس، مما يُلصق به من الشره، وضخم البدن، وسقوط الهمة، ودناءة النفس، ومباينة أخلاق الرجولة، ليصرف زوجه عن لومها إياه؛ لأنها تدعوه إلى أن يكون على حال تقتضي أن يكون مثله، وهو إنما يريد أن يكون مثل الثاني الذي صوره صورة تحببه إلى النفس. ولا جرم أن من يقرأ صورة الرجلين يجد نفسه تشمئز من الأول، وتستريح إلى الثاني، وهذا الاشمئزاز والارتياح هما اللذان يصوغان شعور القارئ نحو هذين الأنموذجين من الناس، صياغة تلقائية، يترتب عليها قبول فعله أو رفضه، ومحاكاته أو مجافاته، وكذلك تصنع المأثورات عامة، والآداب منها خاصة؛ لأنها تقدِّم الفكرة في ثوب من الحسن أو القبح، يحبب أو يبغِّض؛ فمن ثم كان حرْص الشعوب على الآداب وتخليدها؛ لأنها وسيلتها إلى صياغة شعور الناشئة وعقولهم، وتوجيه سلوكهم، وصنع ثقافتهم. وكان عمر -رضي الله عنه- يقف بالمرصاد للمأثورات التي تستنبت الكسل والسلبية، أو يمكن أن يُفهم منها ما يكون سببا فيهما، حتى لو كان حديثا صحيحا، فقد وجد مرة أبا هريرة -رضي الله عنهما- يحدث بحديث من أحاديث المبشرات، فدفعه في صدره حتى سقط على قفاه، وقال له: دع الناس يعملون. وروى أبو بكر -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اخرج فناد في الناس: "من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وجبت له الجنة"، فخرجت فلقيني عمر فسألني فأخبرته، فقال عمر: "ارجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقل له: "دع الناس يعملون؛ فإني أخاف أن يتكلوا عليها"، فرجعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته ما قال عمر، فقال: "صدق عمر"؛ فأمسكت". فلما قلَّ نظراء عمر في الفقه، توسع بعض الوعاظ في التحديث بمثل هذه الأحاديث، والأحاديث التي ترغِّب في الزهد وترغِّب عن الدنيا، على وجه ترتب عليه الكسل والسلبية، والإعراض عن عمارة الأرض، وتحقيق مقتضيات الاستخلاف، فكان من أمر الأمة ما نعلم. وكان أكثر الشعوب تقبلا لهذا الفهم الشعوب التي هي أميل إلى الكسل والسلبية، وأقرب بطبعها إلى الزهد غير الإيجابي، كشعبنا. وقد أورثتنا تلك الثقافة شبابا له عزائم كعزائم الشيوخ، وتفكير كتفكير العجائز، خورا، وانسياقا مع الهوى. ولن ينزع ذلك إلا ثقافة إيجابية، تستنبتها في شعورنا وعقولنا مأثوراتٌ ومعارف جديدة، تورث عكس ما أورثت تلك. وأكثر ما يعين على ذلك قرءاة نتاج الشعوب في طور الفتوة والإقبال، وهي تستسهل الصعاب، وتركب الأهوال، ولا تعترف بوجود المحال، وترى أن ليس في وسع شيء أن يصدها عن بلوغ ما تريد. أما ثقافة الشعوب "المنسحبة من الحضارة"، فلا تزيد إلا خبالا، ونكوصا على الأعقاب، وإن كانت أقرب إلى قلوب الشعوب الكسلة؛ لأنها تعفيها من العمل الذي تشنؤه، وتزين لها ما هي فيه لأنها تكسل عما هو خير منه.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : يحيى البيضاوي