إ كلمات نشيدنا الوطني : بين استلاب المعنى وابتزاز المبنى ~ يراع ـ البيضاوي

الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

كلمات نشيدنا الوطني : بين استلاب المعنى وابتزاز المبنى

يحتل المحتوى الرمزي في الدولة المعاصرة مكانة كبرى لا تقل شأنا عن المحتوى المادي ، نظرا للأدوار الموكلة إليه في سبيل تحقيق الانسجام النفسي والمعنوي للشعوب حيث تختزل تلك الرموز الوطن مجسدا في مضامين قابلة للاستيعاب، تجعل الناس يتفاعلون معها بسهولة ويسر. 
وكلما كانت تلك الرموز تثير كوامن النفوس، وتحرك العواطف، وتبعث النخوةَ والكبرياء، كلما كانت أقدر على أداء رسالتها.  ومن أهم تلك الرموز التي تشكل المحتوى الرمزي للدول في عصرنا الحالي: عَلَم الدولة، ونشيدها . وليست ثمة معايير ثابتة يمكن أن نعود إليها لتفسير الأسس التي على أساسها يتم اختيار ألوان العَلَم أو مكوناته ، إلا أنه من المؤكد أنّ العلمَ رمز موغل في القدم، وكان أشد ما يحرص على رفعه في المعارك للتمييز بين المتحاربين؛ حيث كانت القيادات في الأطراف المتحاربة تحرص على أن يحملَ العلمَ الأشجعُ والأقوى والأوفرُ نسبا في المجموعة ، ولقد ظهرت  الأعلام قديما  في شكل عِصِيّ ، ثم في شكل أجزاء من بعض الحيوانات، وفي عصر الفراعنة  والبابليين بدأ العلم يأخذ أشكالا أكثر تعقيدا .
 وكان علم المسلمين في العهد النبوي أسودَ، ولواؤهم أبيضَ .والعَلَمُ والرايةُ واللواءُ تطلق -أحيانا - على مُسمّى واحد.
 أما النشيد الوطني فهو عبارة عن كلمات منظومة  تشير إلى خصوصيات بلد بعينه تكون مكتوبة وملحنة، وقد تكتفي بعض الدول بوجود الألحان دون الكلمات ، ويعزف النشيد الوطني أثناء المناسبات الوطنية، وتردده الناشئةُ كلَّ صباح أثناء رفع العلم في ساحة المدرسة.
 وحُمّى الأناشيد الوطنية بدأت تجتاح أوروبا في القرن التاسع عشر وكأن الحكومات الاوروبية - آنذاك - كانت تريد أن تحشد الأصوات وتجلب العواطف حولها أثناء الصراعات التي اندلعت بين دول القارة العجوز المتنافسة على الأسواق والمواد الأولية في العالم الثالث إبان  الحقبة الاستعمارية . وأول نشيد وطني رسمي مستعمل حتى الآن هو النشيد الهولندي الذي بدأ العملُ به رسميا في القرن السادس عشر الميلادي، ويعتقد أن النشيد الياباني قد تم تأليفه قبل ذلك بكثير في حدود الألفية الأولى للميلاد إلا أنه لم يتم ترسيمه كنشيد رسمي لليابان  إلا في نهايات القرن التاسع عشر.
 والمتأمل في صياغة الأناشيد الوطنية  لدى كثير من الدول يجد أنها تركز على خصوصيات بعينها كاسم البلد، أو جغرافيته ، أو مقوماته الاقتصادية والاجتماعية، أو نظام حكمه، أو نضال أبنائه في سبيل الحرية والاستقلال .. وإن كان الإيحاء الموسيقي للكلمات يعطي دلالاتٍ إضافيةً من بينها المجد والسؤدد والكرامة والقوة والبأس .. إلخ .
فأين النشيد الوطني لموريتانيا من هذه المواصفات ؟ وإلى أي حد يخدم تلك القيم ؟ وعلى أي معيار تم اختياره  ؟ ولماذا ؟ .
النشيد الوطني لموريتانيا جزء من قصيدة عمودية تعود للعلامة بابه ولد الشيخ السيدي ( ت 1924م ) تم اختيارها من طرف بناة الدولة الحديثة لتكون نشيدا وطنيا للبلاد ، وتولى تلحينه موسيقار فرنسي، وقد استطاع النشيد الوطني أن يثير العواطف لدى الكثير من المواطنين الموريتانيين بكلماته الجياشة التي تزخر بمعاني الاستقامة والاتباع، حتى أن البعض وصفه بنشيد الدولة السلفية الغائبة بامتياز . ولا غرابة في ذلك فالنشيد جزء من قصيدة لفحل من فحول اللغة والأدب والثقافة الإسلامية لا يشق له غبار قد نبت في الثقافة الإسلامية وترعرع  في أحضانها ليتولى العطاء المعرفي والتربوي والقيادي بجدارة، وقد يكون ذلك من أهم المبررات التي على أساسها تم اختيار هذه الكلمات المفعمة بمعان الدين الذي تَفرّد بإدارة البلاد من غير منازع منذ أن دخلها ، وقد انتظمت فيه الأطيافُ الاجتماعية في المنطقة على اختلاف ألسنتهم وألوانهم فصاغهم في مذهب فقهي وعقدي وسلوكي واحد منذ أن دخل البلاد قبل مئات السنين، وهو أمر يندر توفره في الدول العربية والإسلامية الأخرى حيث تتوزع ساكنتها ،غالبا، إلى مذاهب عقدية وفقهية  بل وتشاطرهم - أحيانا - ديانات أخرى تشد إليها أفئدة من الناس ؛ وحيث يعتبر أي طرح من هذا النوع سببا في إثارة حساسيات الفرق والأديان الأخرى. 
لكن إذا كانت هذه الجوانب قد تم التعاطي معها بإيجابية كبيرة من طرف كلمات النشيد فهل وفقت تلك كلماته – أيضا - للتعاطي مع الجوانب الوطنية كما تتعاطى معها الأناشيد الوطنية في الدول الحديثة ؟ قد لا أبالغ كثيرا إذا قلت إن  نشيدنا الوطني لم يحالفه التوفيق في هذه الجوانب ، بل هو خُلْوٌ  من كل المعاني الوطنية التي يتم اختيار الأناشيد الوطنية على أساسها في الدول الحديثة ، سواء على مستوى المعنى أو على مستوى البنى : أما من حيث المعنى فهو لا علاقة له بخصوصية البلد إطلاقا ، و يخاطب المواطن الموريتاني كما ينبغي أن يخاطب المسلم البنغالي في شرق آسيا أو مسلمي اميانمار أو القوقاز ...
و من حيث المبنى فهو قطعة شعرية تم تصميمها وفق معطيات الشعر العمودي لغرض  التوجيه والوعظ ، وتبدو كلماته انسحابية ، طيعة للغرض الذي جاءت من أجله أصلا ، منسلخة من حرارة الفعل والطموح إلى الإنتاج والتجديد ، وإذا كانت عباراته صالحة للغرض الشعري الذي أنشئت من أجله أصلا فهي ليست كذلك  لأن تكون نشيدا وطنيا : أنكر، المناكرا ، مهاجرا ، لا تعد نافعا ، موهوا ، احتنكوا ، الفلا ..  بل إن استجلاب بعض عباراته لتكون نشيدا وطنيا قد يترتب عليه فهم معاكس للغايات التي قصدها أولئك الذين اختاروه يوم أن اعتمدوه نشيدا وطنيا ، فانظر مثلا إلى العبارة التي تقول : "..فما كفى أولنا أليس يكفي الآخرا ؟ " فالمقامُ هنا لا يعين على فهم ما ترشد إليه هذه العبارة ؛ إذ المقصود منها في القصيدة الأم الأمور العقدية حيث الوقوف عندها مطلوب والخروج عنها مذموم ، أما المقام هنا فهو مقام حَثّ على البناء والإنماء والتشييد والتطوير والتغيير نحو الأحسن ، وحينئذ تكون إيحاءات هذه العبارة ليست في محلها، وسباحةً ضدّ التيار العام الذي تسبح فيه الأناشيد الوطنية في العالم، ولا شك أن مواقف أجيالنا من هذا التوجيه ستكون معلومة  إذا ما علمت أن " أولنا " لم تكن لهم دولة وكانوا قبائل متناحرة في مُتّسع من الأرض..! ولهذه العبارة أخواتٌ في الأبيات التي تليها يطول المقام بتتبعها.
 إن النشيد الوطني على العموم يجب أن يكون قطعة حية تستجمع العواطف الجياشة وتستثير في النفوس الشعور بالمجد والقوة والرغبة في اكتساح ميادين الفعل الحضاري المتجدد لاستثمار ذلك كله في سبيل خدمة الأوطان ورفاهيتها والتصدي للمعتدين عليها وبذل الغالي والنفيس في سبيل شرفها وعزتها. ولنأخذ مقاطعَ من الأناشيد الوطنية لبعض الدول العربية والإسلامية كأمثلة حية نوضح من خلالها ما نَتَغيّاهُ من هذه المعالجة ؛ حيث ينطلق النشيد الحالي لتونس من نقطة محورية تتلخص في ضرورة الوفاء لتونس وأن التونسيين مستعدون لأن يحيوا حياة الكرام  على عهد تونس  أو يموتوا في سبيل عزتها موت العظماء  :
فلا عاش في تونس من خانها    
ولا عاش من ليس من جندها
نموت ونحيا على عهـــــــــــــــــــــــــــدها    
حيـــــــــــــاة الكرام وموت العظام
وينطلق النشيد الإيراني من نداء الإمام نحو الاستقلال والحرية معترفا بمكانة الشهداء الذين سقطوا في سبيل أن تبقى إيران جمهورية إسلامية حرة أبية مستقلة :
ونداؤك أيها الإمام
للاستقلال والحرية
 منقوشٌ في أرواحنا
أيها الشهداء ..  لا زالت صيحاتكم تملأ مسامع الزمن
فَلْتبقَيْ خالدةً وأبية
أيتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية
أما النشيد الوطني للجمهورية الإسلامية الموريتانية فهو يعبر عن قضايا عامة لا تخص أحدا من مواطنيها، بل يشترك فيها كل المسلمين على ظهر البسيطة ، فيقول :
 كن للإله ناصرا
وأنكر المناكرا
وكن مع الحق الذي
 يرضاه منك دائرا
ويظل يدور حول هذه الفكرة الجميلة جاعلا منها نقطة المركز والحواشيَ والأطراف ، ولا شك انها كذلك جميلة حقا ، إلا أن الصياغة المتعارف عليها للأناشيد الوطنية والأهداف المتوخاة منها مستلبة من هذه الكلمات لا أثر لها هنا إطلاقا. ومع أن بعض مثقفينا يشير تصريحا أو تلميحا  إلى أن اختيار تلك القطعة لحظة الاستقلال الوطني ليس بريئا أبدا ، فإنني شخصيا  لست أوجه اللوم لأحد من الجيل المؤسس الذي أدارَ مرحلة ما بعد الاستقلال في اختيار هذه الكلمات لاعتمادها نشيدا وطنيا، نظرا لصعوبة الظرفية التاريخية التي ظهرت فيها موريتانيا للوجود كدولة مستقلة لم يكن لها سابق عهد بنظام أو حكم رسمي ، كما أن معظم الكفاءات في تلك الحقبة كان قد تم تكوينها باللغة الأجنبية ، وقد اجتهد أولئك المؤسسون في ما هو متاح بين أيديهم ، إلا أننا نحن في الأجيال اللاحقة لَمْ نَفِ بمسؤولياتنا على الوجه الأكمل بدليل إحجامنا طويلا عن إثارة قضايا مهمة ظلت مُوكلة إلى عامل الصدفة من قبيل تسمية البلاد، ونشيدها الوطني، وهي أمور كلها تدخل تحت عنوان الهوية التي لا تزال معلقة دون أن يحسم في شأنها أي شيء يذكر حتى الساعة  !
ولا غرابة أن تتم مراجعة الأسس والقيم و الرموز والعناصر التي تشكل مضمون الدول كالدساتير والقوانين والأعلام و الأناشيد الوطنية ، بل إن المراجعة الجادة دليل على الحياة، وقابلية التطور، والحركة نحو الأحسن ؛ ولقد غيرت دول كثيرة أناشيدها الوطنية فلقد غيرت مصر نشيدها الوطني ثلاثة مرات وغيرت سوريا نشيدها أكثر من مرة وغير العراق نشيده أكثر من ثلاث مرات ، وغيرت تونس نشيدها مرتين ، كما أن الجزائر جارتنا وأختنا الغالية  قد غيرت موسيقا نشيدها الوطني ، لَمّا رأى قادتُها في وقت من الأوقات ، أنها لا تناسب حرارة كلمات النشيد المفعمة بروح الثورة الجزائرية المجيدة .
ولو تتبعنا الأناشيد الوطنية لبعض جيراننا من الأفارقة للاحظنا كذلك أن البون بيننا وبينهم في هذا المجال شاسع ، حيث حظي كثير من تلك الأناشيد في تلك البلدان بعناية كبيرة ، فمثلا في الجارة الجميلة السنغال كان رئيسها المؤسس سينغور قد حرص هو نفسه على كتابة النشيد الوطني وكانت كلماته تضج حيوية وجمالا  إذ يقول في بعض مقاطعه :
أيها السنغاليون، انهضوا!
انضموا للبحر وللينابيع، انضموا للسهول وللغابات. هللوا لأمّنا أفريقيا، هللوا لأمّنا أفريقيا.
يا سنغال سوف نواصل عملك العظيم :
لحماية الفراخ من الصقور
ولنجعلها تنهض، من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب
كرجل واحد في ريعان الشباب
قد أدار ظهره لكل الأعاصير.
وكثير من الدول العربية لم تكل اختيار نشيدها الوطني إلى أفراد بل أسندت الأمر لهيئات مؤقتة من المختصين طُلب منها أن تختار النشيد الوطني عبر مسابقات وطنية للشعراء والموسيقيين ، ومن بين تلك الدول التي نحت ذلك المنحى :  تونس وليبيا والسودان وسوريا ولبنان . وكلما كان النشيد الوطني مختصرا مشحونا بالدلالات التاريخية للبلد، كان أحلى وأجمل، وسَهل ترديده في شتى المناسبات واستحضار معانيه خصوصا لدى الناشئة . ولعلّ النشيد السعودي يستجمع كثيرا من تلك المواصفات إذ لا يتجاوز  أربعة أبيات شعرية مشحونة بمضامين غاية في الرمزية الوطنية.
وخلاصة القول أننا اليوم بحاجة ملحة أكثر من ذي قبل إلى ضرورة إعادة النظر في كلمات نشيدنا الوطني تمهيدا لاستكمال محددات هويتنا الوطنية واحتراما لخصوصيتنا الثقافية والتاريخية  و تحقيقا لرغبات شبابنا في الانتماء والمواطنة .

1 التعليقات:

غير معرف يقول...

آستاد يحي الدول المورتاني ضعيف قير قادرة على تغيير شرويطة من بلدها احرى هويتها لا تنسى المشاكل الذي حصل عند ما قال الوزير الأول ان العربية يجب أن تنال مكنتها مجرد كلمة تحركت حثالة قليلة ولكنها وحدها في الشارع وانطلقت تعوث فساد في المؤسسات العامة والخاصة فالقوميون الذي كانت لهم اياد بيضاء في هذا المجال اظمحلوا من الخريطة والإسلاميين ليست لهم استيرتيجة واضحة غير جمع التبرعات وأموال الزكات والصدقات وتقسيمها بينهم ثم الخوض بما تبقى من ذلك السياسة التي جننتهم مناصبها ولكن بدون خبرة وبدون وعي سياسي ولا ثقافي .

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : يحيى البيضاوي