إ على هامش الحملة الانتخابية : تأملات في ممارستنا الديمقراطية ~ يراع ـ البيضاوي

الجمعة، 31 أغسطس 2018

على هامش الحملة الانتخابية : تأملات في ممارستنا الديمقراطية

تتوقف اليوم جعجعة الحملة الانتخابية التي عرفتها البلاد على مدى أسبوعين تقريبا، والتي تميزت بالسخونة وحرارة الأجواء التي تضافرت فيها أشعة شمس الخريف الحارقة مع ضجيج الحملات الدعائية الذي تردد صداه في كل زاوية من زوايا الوطن،ورغم أن الجميع قد عاش أجواء تنافسية حادة  جاء إليها بقناعات قد تختلف من شخص إلى آخر،فإن الصورة العامة التي تتأطر فيها هذه العملية لا تخرج عن الملامح الديمقراطية التي غدت اليوم مطلبا من مطالب الحياة لدى الأفراد والجماعات في عالمنا المعاصر.
ويمكن القول إن للديمقراطية سمات محددة وخطوطا عريضة وآليات متبعة عندما تتوفر كلها أو بعضها  في أي عملية من هذا القبيل توصف بأنها ديمقراطية ثم تتباين الآراء في أوصافها اللاحقة من حيث الكمال أو النقص ، لهذا تتخذ الديمقراطية أشكلا وأنماطا مختلفة من بلد إلى بلد ومن مجتمع لآخر، إلا أنها غالبا ما تكون النظرة متساوقة إلى حد كبير في البلد الواحد حيث تعمل الآلة الدعائية السائدة من إعلام وتعليم وغير ذلك .. على تقارب الفهوم والتصورات ، وتبرز القيم المشتركة التي تؤدي بالجميع إلى أهدافه وطموحاته السياسية ، رغم تباين تلك الأهداف وتضارب تلك الطموحات أحيانا ؛ فمثلا لن تجد أي جهة في أي ديمقراطية عريقة تسعى لتحقيق أهدافها  مهما كانت درجة ميلانها إلى اليمين أو اليسار خارج صناديق الاقتراع أودون الاستناد إلى قواعد اللعبة كما يحدّدها الدستور، وهكذا رغم التنوع الديمقراطي الحاصل على مستوى تلك البلدان واختلاف تطبيقاتها للديمقراطية  فإن كل بلد يعتز بديمقراطيته التي أنتجها عبر تراكمات من الخبرة و التجربة حتى غدت جزءا من ثقافته تستوعبها الجماهير وتطمئن إليها، وترتاح لها المؤسسات الحزبية والسياسية على اختلاف توجهاتها، رغم اختلافها في كثير من مساقاتها عن نظيراتها في البلدان الديمقراطية الأخرى ..
بيد أن المجتمع الناخب في موريتانيا ولما يصل بعد إلى هذا المستوى لأسباب تتعلق بعمر التجربة الديمقراطية المحدود، والظرفية العامة التي ظلت تمثل الحاضنة لها، فإن الصورة العامة للممارسة الديمقراطية لم تزل مبعثرة ومشتتة ، بل إنها تكاد تتعدد  بتعدد افراد المجتمع حيث ينظر إليها كل فرد من خلال الصورة التي سبقت إلى ذهنه واستطاع استيعاب ذلك المفهوم ( الديمقراطية ) من خلالها؛ فسدنة القبائلية ينظرون إلى الديمقراطية ممثلة في صخب الحملات الانتخابية وما تؤدي إليه على أنها فرصة لتأكيد "درْجة" القبيلة وإعادة بناء لحمتها وانسجام مكوناتها وربط حاضرها بماضيها، وأصحاب المصالح يرونها فرصة للمقايضة يجب أن تستثمر فيها الجهود وتعاد فيها الحسابات بشكل دقيق ومنتج ، وذوو الخلفيات الأيديولوجية يعتبرونها سانحة جميلة  تقربهم من أهدافهم رغم نظرة بعضهم السلبية خصوصا في الأيديولوجية الإسلامية  تجاه المسألة الديمقراطية ذاتها التي لا يرونها منسجمة مع خلفياتهم الفكرية والعقدية ومع ذلك فهي محطة مهمة يعولون عليا كثيرا من أجل تقصير المسافة نحو أهدافهم السياسية .
ويترتب على هذه النظرة السائدة التي تمزق الهيئة الناخبة في الوطن نتائج غير مرضية تصب في مجملها خارج المصلحة الوطنية الكبرى ، كما أن فلسلفة الغاية التي تبرر الوسيلة تكون حاضرة بشكل قوي ومؤثر ؛ لهذا يسود الخداع ويروج الكذب  وتتوتر العلاقات بين الافراد التي تشحن مساء صباح بمفردات المصالح الخاصة ومعاني الـ "نحن" ؛ نحن الفلانيين ، ونحن أصحاب التوجه الفلاني ، ونحن في حزب فلان أوعلان .. ويكون البرنامج منصبا على تعرية الآخر بأسلوب قذع دون أن يُعنَى أي طرف بطرح  مقنع يتناول حياة المجتمع، ويفصل نظرته لتحقيق الحدّ المقبول على مستوى المعيشة والتعليم والخدمات العامة ..
ولو تأملنا المنطق المشترك بين كل الحملات التي ظلت تجوب وتصول في ساحة الوطن على مدى الأيام الماضية لوجدناه لا يتجاوز ما تتميز به على مستوى المظهر العام من تجمهر وطلب للكثرة الفارغة ،  مما يجعل الجميع يبذل ما في وسعه لتحقيق أكبر حضور لمهرجاناته حتى ممن لا يعرفهم ولا يمت لهم بأي صلة لا سياسية ولا قبلية ؛ حيث يتم طلب الحضور من المارة في الشوارع وأصحاب المحلات والبيوت أحيانا ..  ، وحيث يتم تسخير وسائل النقل والمواصلات لتلك الغاية، ثم يتجمهر الناس حول مظهر آخر من مظاهر الفراغ الديمقراطي تسوده الموسيقى الصاخبة ويتكدس فيه  الفراغ بعضه على بعض وتغيب فيه البرامج المقنعة ، وهكذا تحاول كل جهة أن تسجل ضد خصمها أكبر حضور جماهيري يبدع  الكل في تحصيله ، ومن هنا للأسف تتنكب الديمقراطية غايتها المتمثلة في إحداث وعي لدى الجماهير فعلى حد تعبير جان جاك روسو فإن " رصيد الديمقراطية الحقيقي هو الذي يتعلق بوعي الناس " وعكسا لذلك تجد أن الممارسة الديمقراطية لدينا تزيد في غباء الجماهير وتكرس المفاهيم المناقضة للديمقراطية ، حتيى ينتهي بنا الأمر
إلى تفعيل سوق الفتوى الدينية أيام الحملات فتنشط أقوال المشايخ وتوجيهاتهم ويظهر حرصهم المفتعل على مصالح الناس وهو نوع آخرمن أنواع المقايضة لدى أصحاب المصالح له أثره البالغ في ضعف العملية الديمقراطية وبطء تطورها .
ونخلص أخيرا إلى أن الحملة الانتخابية التي عرفتها البلاد في الأيام الماضية تعطي الانطباع بأن العملية الديمقراطية لم تغادر مواقعها الأولى كثيرا حيث لم تختلف الحملة الأخيرة في أي شيء يذكر عن سابقاتها إذ لم تعن أي جهة بإعداد برامج مقنعة ، كما أن القضايا الكبرى التي تؤرق المجتمع لم يسجل لها أي حضور أثناء هذه الحملة كالتفكير في سبيل إعادة تلاحم المجتمع وانسجام مكوناته الاثنية وترتيب أولويات الدولة تجاه تلك المكونات، كما غاب عن الحملة الرؤية الوطنية المفترضة على مستوى التعليم والاقتصاد والبطالة ..، ومع ذلك يمكن أن نسجل بإيجابية الاجواء السلمية التي مرت بها تلك الحملة وهو أمر يحسب لصالح المجتمع ومدى استيعابه لتعدد الآراء وتنوعها أثناء الممارسة الديمقراطية ، وهذا يعني أن ثمة قابلية كبيرة لخلق ديمقراطية حقيقية تستجيب لخصوصيتنا المحلية والدينية و التاريخية ..

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب بلوغر ـ تطوير وتنسيق : يحيى البيضاوي